قبل 27 عامًا غيّب الموت الفنان المصري فريد شوقي، لكن بقي فنه خالدًا بعد أن صنع علامات مضيئة منحته الخلود بعد الرحيل، "وحش الشاشة" و"ملك الترسو"، لم تكن مجرد ألقاب بل توثيق لمقدار التأثير لفنان أضاء شاشة السينما، فكان طاقة لا تنضب، ومشروعًا فنيًا متكاملًا سكن وجدان المصريين والعرب على مدار أكثر من 50 عامًا، فهو من جسد البطولة، وأنتج الحكاية، ليصنع مجدًا استثنائيًا لفنان لا يُشبه سواه، فكانت سيرته انعكاسًا لتاريخ الفن المصري.
وفي 27 يوليو عام 1998، رحل فريد شوقي عن عالمنا عن عمر ناهز 78 عامًا، بعد أن قضى أكثر من 50 عامًا في خدمة الفن المصري والعربي. رحل "وحش الشاشة" لكن أفلامه لا تزال حية، تؤكد حجم تأثيره، وتجعل من اسمه سيرة متجددة كلما مرت ذكرى وفاته أو عُرض أحد أعماله على الشاشة.
وُلد فريد شوقي، يوليو عام 1920 بحي السيدة زينب، في قلب العاصمة المصرية القاهرة، نشأ وسط أسرة ذات أصول تركية، وكان والده محمد عبده شوقي، يعمل مفتشًا بمصلحة الأملاك الأميرية. تلقى تعليمه الأولي بمدرسة "الناصرية"، ونال شهادة الابتدائية عام 1937، ثم التحق بمدرسة الفنون التطبيقية، وحصل منها على الدبلوم، قبل أن يعمل موظفًا بمصلحة الأملاك، مثل والده.
وظل قلبه متعلقًا بالمسرح والفن، منذ أن اصطحبه والده لمشاهدة عروض فرقة "رمسيس"، وهو ما زال تلميذًا صغيرًا.
بداية متعثرة
شق فريد شوقي طريقه بصعوبة، فبدأ ككومبارس في فرق كل من يوسف وهبي، نجيب الريحاني، فاطمة رشدي، جورج أبيض، وعزيز عيد، إذ تتلمذ على يديه. وفي شارع عماد الدين خاض تجربته الأولى وسط مجموعة من الهواة، الذين أصبحوا فيما بعد من كبار الفنانين، مثل عبدالرحيم وعلي الزرقاني، وأحمد الجزايري، وكونوا معًا فرقة مسرحية، وكتب علي الزرقاني أولى مسرحياتهم بعنوان "الضحية"، جسد بطولتها فريد شوقي على مسرح "برنتانيا".
في عام 1945، التحق شوقي بالمعهد العالي للتمثيل، وكان من بين أوائل خريجيه عام 1947، ليقرر بعدها الاستقالة من وظيفته والتفرغ للفن. جاءته الفرصة الأولى من بوابة المخرج يوسف شاهين في فيلم ملاك الرحمة عام 1946، ثم توالت عليه الأدوار، فكانت انطلاقته الحقيقية مع فيلم ملائكة في جهنم عام 1947 للمخرج حسن الإمام.
وبين أدوار الشر وابن البلد، استطاع فريد شوقي أن يُشكل ملامح نجم من طراز مختلف، جمع بين القوة والتعاطف، وبين الصرامة والإنسانية.
شكل فيلم جعلوني مجرمًا "1954" نقطة تحول حقيقية في مسيرة فريد شوقي، ليس فقط كممثل، بل كمؤلف للسيناريو، إذ كتب القصة بنفسه، ونجح الفيلم بشكل كبير، وأسهم في تعديل تشريعي حقيقي في مصر، وألهم السلطات بإلغاء السابقة الجنائية الأولى لتسهيل فرص العمل أمام الشباب.
وتوالت بعدها أفلامه التي أصبحت علامات بارزة في السينما الواقعية، مثل الأسطى حسن، بورسعيد، حميدو، رصيف نمرة 5، وغيرها.
عرش "الترسو"
في وقت كان فيه جمهور الدرجة الثالثة "الترسو" نبض السينما الحقيقية، استطاع فريد شوقي أن يكون نجمهم الأول بلا منازع، فاستحق لقب "ملك الترسو". كما صُنف لاحقًا كـ"وحش الشاشة"، بفضل أدائه القوي، وكاريزمته، وحضوره الطاغي الذي جعله في مصاف كبار نجوم عصره.
لم يكن فريد شوقي ممثلًا فقط، بل كان منتجًا ذكيًا ومؤلفًا موهوبًا. كتب وأنتج عددًا كبيرًا من أفلامه، منها جعلوني مجرمًا، بورسعيد، النمرود، جوز مراتي، الطريد، شاويش نص الليل، وغيرها من الأعمال التي أسهمت في تشكيل وعي أجيال كاملة.
كما قدم عددًا من المسرحيات والمسلسلات، وكان له حضوره الدائم على الشاشة الصغيرة، ما جعله ضيفًا دائمًا في بيوت المصريين والعرب على مدار عقود.
ومن أبرز أفلام فريد شوقي التي لا تزال تُعرض حتى اليوم "الفتوة، إعدام ميت، عنتر بن شداد، رجل فقد عقله، كلمة شرف، إسكندرية ليه؟، صاحب الجلالة، قهوة المواردي، فتوة الناس الغلابة، سعد اليتيم، أمير الدهاء، ومضى قطار العمر، إلى جانب مشاركته المتميزة في فيلم باب الحديد للمخرج يوسف شاهين".
ولا يمكن اختزال فريد شوقي في أدواره فقط، فهو مدرسة فنية مستقلة، قدم الفن كقيمة اجتماعية، وكان حريصًا دائمًا على تقديم أدوار تحمل رسالة. امتلك أدوات الفنان الشامل، من تمثيل وكتابة وإنتاج، وقدم نموذجًا نادرًا للالتزام والاحتراف والانتماء الحقيقي إلى الفن.