كشفت "قنبلة الميزانية" التي أطلقها رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو، عن أزمة مالية أوروبية عميقة تهدد بالإفلاس، إذ تواجه القارة العجوز تحديات متداخلة من شيخوخة السكان وتزايد الديون وضرورة تمويل الدفاع والتحول الرقمي والبيئي.
خطة التقشف الفرنسية تواجه معارضة شديدة
أعلن بايرو يوم الثلاثاء خطة تقشف قاسية تشمل تخفيض الإنفاق وزيادة الضرائب وإلغاء إجازتين رسميتين، وفقًا لصحيفة "بوليتيكو"، مؤكدة أن هذه الخطة ليست مجرد تحذير لفرنسا، بل دليل واضح على أن أوروبا المتقدمة في السن تتجه نحو الإفلاس إذا لم تتبنَّ تغييرات جذرية.
واجهت الخطة معارضة شديدة من زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، التي هدّدت بإسقاط حكومة بايرو الأقلية، قائلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي: "هذه الحكومة تفضّل مهاجمة الشعب الفرنسي والعمال والمتقاعدين، بدلاً من محاربة الهدر".
وليس بايرو وحده من يواجه هذا التحدي، فرئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر اضطر الأسبوع الماضي للتراجع عن تخفيضات الرعاية الاجتماعية بسبب تمرّد نواب حزبه.
أرقام مفزعة تكشف عمق الأزمة المالية
تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى أن العجز في الميزانية الأوروبية سيرتفع إلى 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية العقد، مما يدفع الدين العام إلى 93% من الناتج المحلي.
وأوضح التقرير أن فرنسا في وضع أسوأ من أي اقتصاد رئيسي آخر في المنطقة، حيث وصل العجز إلى 9% من الناتج المحلي في 2020 ولم ينخفض عن هدف الاتحاد الأوروبي البالغ 3% منذ 2019.
وحتى تحت توقعات بايرو، لن تعود فرنسا لهدف الـ3% حتى عام 2029، بينما تشير وكالات التصنيف الائتماني بانتظام إلى تدهور مسار الديون الفرنسية.
وتتفاقم المشكلة مع ارتفاع تكاليف خدمة الدين، حيث تضطر الحكومات الأوروبية لإعادة تمويل الأموال التي اقترضتها بأسعار فائدة منخفضة جدًا بين 2014 و2022 بأسعار أعلى بكثير.
الشيخوخة السكانية تفاقم التحديات المالية
حذّرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من أن الإنفاق الاجتماعي المرتبط بالتغيرات الديموغرافية سيرفع الإنفاق العام بحوالي 3 نقاط مئوية من الناتج المحلي خلال 25 عامًا، مما "سيترك مجالًا ماليًا أقل للمزايا المستهدفة لتخفيف الفقر والتأمين ضد الصدمات الاقتصادية ودعم إعادة تخصيص سوق العمل".
وتوقّع مكتب المسؤولية عن الميزانية البريطاني أن تستهلك أنظمة التقاعد الحكومية 7.7% من الناتج المحلي بحلول السبعينيات، مقارنة بـ5% حاليًا و2% فقط في عام 1950.
كما أشارت المفوضية الأوروبية في تقديرها الأخير عام 2021 إلى أن التكلفة الإجمالية للشيخوخة - بما في ذلك تكاليف المعاشات والصحة والرعاية - ستزيد من 24% من الناتج المحلي في 2019 إلى 25.9% بحلول 2070.
ويقدّر البنك المركزي الألماني أن القوى العاملة ستبدأ في الانكماش بالقيم المطلقة، تمامًا مع بدء خطط الإنفاق الضخمة المموّلة بالديون للمستشار فريدريش مرتس.
تحديات الدفاع والأمن تزيد الأعباء
يواجه الاتحاد الأوروبي ضغوطًا إضافية لتمويل "ترقية ضخمة للقوات المسلحة الأوروبية المتهالكة" لمواجهة التهديدات الشرقية المتجددة، وقد قبلت ألمانيا وبريطانيا وفرنسا الحاجة للإنفاق بسخاء على هذا الأمر، بينما تردّد رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز في مواجهة التحدي.
وتشير تقديرات وكالة التصنيف الائتماني KBRA إلى أن تعهّدات دول الناتو برفع الإنفاق الدفاعي ستوسّع العجز الحكومي في الاتحاد الأوروبي بين 1.3-2.8% من الناتج المحلي، اعتمادًا على سرعة الإنفاق وطبيعته.
التأثير العالمي يزيد من حدة الأزمة
أكّد كين إيجان، المدير الأول للدين السيادي في وكالةKBRA، أن "الأسواق أصبحت أكثر حساسية للسياسة المالية ومسار الدين السيادي والعجز".
وهذا ينطبق بشكل خاص على بريطانيا، حيث أدّى الجمع بين التضخم المرتفع وتركز الدين في أيدي المستثمرين المتقلّبين مثل صناديق التحوّط إلى جعل البلاد أكثر عرضة لقفزات تكاليف الاقتراض.
وقد دفع العائد على الدين البريطاني طويل الأجل لمدة 30 عامًا فوق مستوى 2022، عندما أثارت "الموازنة المصغّرة" الكارثية لرئيسة الوزراء السابقة ليز تراس الأسواق.
وقال جييرمو فيليسيس، الاستراتيجي الاستثماري العالمي في شركةPGIM Fixed Income: "هذا يشير إلى أن المستثمرين ما زالوا قلقين بشأن عدم القدرة على تقليل العجز والدين".
كما يؤثّر الوضع الأمريكي على الأسواق العالمية، حيث يُتوقّع أن يضيف "مشروع القانون الجميل الكبير" للرئيس دونالد ترامب أكثر من 4 تريليونات دولار للدين الحكومي خلال العقد المقبل، وفقًا للجنة الموازنة الفيدرالية المسؤولة.
وتنفق الولايات المتحدة أكثر من تريليون دولار سنويًا على تكاليف الفوائد وحدها، أكثر مما تنفقه على الدفاع، رغم العمالة الكاملة تقريبًا.
وحذّر كل من رئيس بلاك روك لاري فينك ونظيره في جيه بي مورغان جيمي ديمون مؤخرًا من أن الوضع قريب من الخروج عن السيطرة.
وأكّد إيجان أن "عندما تعطس السندات الأمريكية، تسعى أوروبا للمناديل"، مشيرًا إلى أن السندات الأمريكية تُعتبر مرجعًا عالميًا، وعندما ترتفع عوائدها تدفع تكاليف الاقتراض في جميع أنحاء العالم للارتفاع معها.