الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

حدود الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة على النظام الدولي بعد حرب الـ12 يوما

  • مشاركة :
post-title
الهيمنة الأمريكية على النظام العالمي- تعبيرية

القاهرة الإخبارية - د. محمد أبو سريع

في مشهد يعكس تصاعد التوترات الجيوسياسية، نفذت الولايات المتحدة، الشهر الماضي، ضربات جوية مركّزة استهدفت منشآت نووية إيرانية في مناطق نطنز وأصفهان وقواعد لوجستية قرب طهران، فيما وصفته إدارة البيت الأبيض بأنه "رد ضروري لردع تجاوزات إيران النووية". وعلى الرغم من أن هذه الضربات العسكرية، تمثل التصعيد الأخطر منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في 2018، إلا أن الولايات المتحدة رأت أنها ضرورية لحماية النظام الدولي ومنع إيران من حيازة سلاح نووي.

ويرتبط بهذا المشهد ما تناولته بعض التقارير الإعلامية بشأن صفقة سرية محتملة بين واشنطن وطهران بقيمة 30 مليار دولار مقابل ضبط البرنامج النووي الإيراني، وهو أمر نفاه الرئيس الأمريكي بشكل قاطع، وهو نفي أثار بدوره ردود فعل واسعة، ليس فقط في الداخل الأمريكي، بل أيضًا على الساحة الدولية.

في هذا السياق، تُثار العديد من التساؤلات حول أثر هذه الضربات الأمريكية على بنية النظام الدولي وموقع الولايات المتحدة فيه. فهل ساعدت هذه الضربات واشنطن في فرض المزيد من الهيمنة والسيطرة على هذا النظام عبر استخدام القوة العسكرية؟.. وهل تكشف تلك الضربات عن استمرار عجز النظام الدولي الراهن في مقابل تأكد استمرار الهيمنة الأمريكية كقطب أوحد في ذلك النظام؟

مقومات القوة العسكرية الأمريكية
تكريس الهيمنة الأمريكية

لعل أهم تداعيات وتأثيرات الضربات الأمريكية الأخيرة ضد المواقع النووية الإيرانية، هي تحقيق المزيد من تكريس الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي في الوقت الراهن. وقد يمثل ذلك أحد الأسباب الخفية على إقدام الولايات المتحدة على تنفيذ هذه الضربات التي تعددت أبعاد تأثيرها لتشمل ما يلي:

(*) استمرار تفوق الولايات المتحدة كقوة عسكرية مهيمنة على النظام الدولي: تشير الضربات إلى بقاء الولايات المتحدة في موقع الدولة الوحيدة القادرة على التحرك المنفرد عسكريًا في مناطق عالية الحساسية كإيران دون تنسيق مع مجلس الأمن. فقد تمكنت الولايات المتحدة من فرض خطوط حمراء استراتيجية على خصومها من دون الحاجة إلى توافق دولي. واستطاعت الولايات المتحدة تنفيذ عمليات دقيقة للغاية بفضل تفوقها التكنولوجي والاستخباراتي والعسكري. لقد أظهرت هذه الضربات أن واشنطن لا تزال تمارس دور "الشرطي العالمي"، وتملك أدوات الردع الاستباقي بفعالية قل توفرها لدى باقي القوى الدولية.

(*) تأكيد الطابع الأمريكي الصدامي في هذه المرحلة الراهنة من عمر النظام الدولي: فقد نفي الرئيس الأمريكي وجود صفقة بمليارات الدولارات مع إيران بشأن برنامجها النووي، وهذا لا يمكن فصله عن السياق العسكري والسياسي في الوقت الراهن. فمن الناحية السياسية، يتوجه ترامب عبر هذا النفي بخطاب موجه داخليًا للكونجرس والرأي العام الأمريكي، في ظل بيئة انتخابية مشحونة لا تسمح بظهور تنازلات. وإقليميًا، يمثل هذا الخطاب رسالة واضحة للحلفاء –خصوصًا إسرائيل ودول الخليج– بأن لا تفاهمات سرية أو إبداء أي مرونة تجاه طهران. وعلى المستوي الدولي، يكرس ذلك النفي لصورة أمريكا كقوة عسكرية كبرى لا تساوم على مصالحها، رغم أنها تستخدم القوة دون غطاء دولي. فوفقًا للسردية الأمريكية التقليدية، تقدم واشنطن نفسها كقوة لا تساوم على أمن العالم ولا تُجري صفقات مقابل امتثال نووي من جانب طهران، في مقابل ما تتهم به الصين وروسيا من صفقات نفوذ.

وإجمالًا، يؤكد نفى ترامب لأي صفقة مع إيران على أن القوة العسكرية الأمريكية ستسبق التفاوض مع إيران، ما يكرّس نهجًا أمريكيًا أكثر صدامًا، ويبتعد عن سياسة الدبلوماسية أولًا. فنفي الصفقة يعزز القناعة بأن واشنطن لا تراهن حاليًا على تسوية سياسية مع طهران، بل تُعيد تفعيل "عقيدة الردع" من خلال القوة العسكرية، كما تجلى في الضربات الأخيرة. وهذا يعكس تحولًا من سياسة أوباما-بايدن التي سعت سابقًا إلى الاتفاق النووي مع إيران، إلى سياسة أقرب لنهج "الضرب والضغط" على إيران إلى حد مطالبتها بالاستسلام من جانب ترامب خلال حربها الأخيرة مع اسرئيل. وبذلك تخاطر إدارة ترامب بتقويض أدوات التفاوض والدبلوماسية الدولية، التي كانت أحد أعمدة القيادة الأمريكية للعالم بعد الحرب العالمية الثانية.

(*) استمرار مأزق الشرعية في النظام الدولي وزعزعة استقراره: على الرغم من كل مؤشرات التفوق، فإن هذه الضربات والنفي يكشفان أيضًا عن تصدع في بنية النظام الدولي الحالي. وتتمثل أزمة هذا النظام في فقدان الغطاء الشرعي الدولي، فلم تحظ هذه الضربات بتأييد أممي، وقوبلت بانتقادات من الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي. وبالتالي قد يصبح النظام الدولي أكثر عُرضة للاشتباك وأقل قابلية للتسويات، فرفض الولايات المتحدة أو عرقلتها التفاوض والحوار مع إيران من جهة، واستخدامها الضربات العسكرية من جهة أخرى، قد ينتج عنه بيئة دولية غير مستقرة، تتسم بالردع المتبادل والتوتر المستمر.

ما السيناريوهات المستقبلية للنظام الدولي الحالي؟

في ضوء ما سبق، يمكن تحديد ثلاثة سيناريوهات رئيسية لمستقبل النظام الدولي:

(*) السيناريو الأول (ضبط الهيمنة الأمريكية): هو سيناريو إيجابي يفترض احتمالية متوسطة للتغيير في العقل الاستراتيجي الأمريكي. ويفترض هذا السيناريو قيام أمريكا بإعادة ضبط استراتيجيتها، وتربط استخدام القوة العسكرية بالشرعية الدولية.

(*) السيناريو الثاني (قيام نظام دولي متعدد الأقطاب): هو سيناريو واقعي يتضمن استمرار أمريكا في فرض إرادتها، لكن قد لا تستمر في ذلك لفترة طويلة مع تصاعد قوى دولية أخرى؛ يأتي في مقدمته الصين وروسيا والهند. فالعالم يتجه نحو موازين ردع متقابلة لا تتيح تفردًا لأي قطب واحد.

السيناريو الثالث (الفوضى الدولية الانتقالية): هو السيناريو الأخطر لأنه يفترض أن معدل الضربات الأمريكية قد تتزايد في المستقبل في عدة مناطق، وما يترتب على ذلك من ردود فعل أكثر فوضوية، والمؤسسات الدولية تُشل، وتتحول مناطق مثل الشرق الأوسط وأوكرانيا وتايوان إلى ساحات نزاع مفتوحة.

وفي النهاية، يمكن القول إن الضربات الأمريكية على المواقع النووية الإيرانية، والنفي الرسمي من جانب الرئيس الأمريكي لوجود صفقة معها، لا يعكسان فقط لحظة توتر إقليمي، بل يُجسدان مرحلة انتقالية حرجة في النظام الدولي. فواشنطن تؤكد أنها لا تزال القادرة على فرض الردع، لكنها تفعل ذلك في بيئة عالمية أقل تقبلًا وأقل ثقة بها، بينما تتقدم قوى أخرى لمحاولة ملء الفراغ. ويبدو في الأفق أن واشنطن لا تسعى فقط إلى كبح المشروع النووي الإيراني فقط، بل إلى تأكيد نموذجها العالمي كقوة عسكرية كبرى لا تتراجع تحت الضغوط، حتى ولو كان ذلك على حساب تآكل الشرعية الدولية، وبالتالي استمرار اتساع الفجوة بينها وبين نظام عالمي متعدد الأقطاب في طور التكوين.