تتبنى الولايات المتحدة الأمريكية توجهات استراتيجية إزاء منطقة الإندوباسيفيك تقوم على تعزيز تحالفاتها مع الدول المؤثرة بها، لمواجهة الصعود الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، التي تعتبر إحدى النقاط المحورية التي يتم توظيفها لتعزيز التنافس الدولي بين الأقطاب المتصارعة على قمة النظام الدولي، وفي مقدتها الولايات المتحدة الامريكية والصين.
غير أن الآونة الأخيرة شهدت بوادر لتصاعد التنافس الأوروبي الأمريكي حول منطقة الإندوباسيفيك، منها ما ارتبط بتصريحات وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيت، خلال مؤتمر شانجريلا للأمن، الذي انعقد بسنعافورة خلال الفترة من 30 مايو إلى 1 يونيو 2025، وأنه لا مكان للقوى الأوروبية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، داعيًا الدول الأوروبية إلى التركيز على الأمن الأوروبي، كان قد سبقها استبعاد الولايات المتحدة لفرنسا المنادية بدعم الاستقلالية الأوروبية من صفقة الغواصات، التي تعمل بالطاقة النووية لصالح أستراليا في إطار تحالف أوكوس، الذي تم تدشينه سبتمبر 2021. وهو التحالف الذي ضم كلًا من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا. وهو الأمر الذي اعتبره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في حينه طعنة في الظهر من الحلفاء. ويبدو أن كلمة ماكرون الافتتاحية أمام قمة مؤتمر شانجريلا للأمن وإطلاق مقترحه الجديد بشأن إقامة تحالف إيجابي جديد بين أوروبا وآسيا هدف إلى تجنب المنطقة من الاستقطاب الأمريكي الصيني، وتقديم إطار بديل للصراع المتنامي من خلال الشراكة والتعاون التنموي. ثم جاءت جولة ماكرون لدول جنوب شرق آسيا، نهاية مايو 2025، لتعزز من التصور الفرنسي لدور جديد في منطقة الإندوباسيفيك.
استراتيجيات متعددة
تعد ورقة الدفاع البيضاء الأسترالية لسنة 2013 بكونها أول وثيقة قومية رسمية في العالم تتضمن مصطلح الإندوباسيفيك، بينما تأخر التضمين الأمريكي للمصطلح ضمن الوثائق القومية الرسمية حتى ديسمبر 2017، لذلك يمكن الإشارة إلى الإندوباسيفيك في الاستراتيجيات الأمريكية والأوروبية على النحو التالي:
(*) الإندوباسيفيك في الاستراتيجية الأمريكية: تأخر التضمين الأمريكي لمصطلح الإندوباسيفيك ضمن الوثائق القومية الرسمية حتى ديسمبر 2017. في تقرير استراتيجية الأمن القومي الجديدة الصادر عام 2017، الذي أعلن بداية عهد جديد من التنافس الاستراتيجي، مع إعادة توجيه الولايات المتحدة الأمريكية لاستراتيجيتها نحو منطقة الإندوباسيفيك. ومنذ ذلك الحين تنوع الاهتمام الأمريكي بتفاعلات المنطقة. وهو الأمر الذي انعكس على تشكيل الولايات المتحدة لسلسة من التحالفات والشراكات الاستراتيجية مع دول المنطقة، أبرزها "كواد وأوكوس"، فضلًا عن إبرام العديد من الاتفاقيات التجارية وتشكيل تكتلات اقتصادية أكثر مرونة مع دول المنطقة من بينها الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، الذي أطلقته الولايات المتحدة مايو 2022.
(*) الإندوباسيفيك في الاستراتيجيات الأوروبية: تمثل الاهتمام الأوروبي بمنطقة الإندوباسيفيك منذ إعلان ألمانيا وفرنسا وهولندا استراتيجيات رسمية إزاء منطقة الإندوباسيفيك، إذ قدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارته أستراليا، مايو 2018، الخطوط الرئيسية لاستراتيجية فرنسا إزاء الإندوباسيفيك، التي تضمنتها ورقة وزارة الخارجية بالتفصيل، كما طرحت وزارة الخارجية الألمانية، أكتوبر 2020، ورقة حددت فيها رؤيتها الاستراتيجية للمنطقة. وقادت الدول الثلاث تيارًا داخل الاتحاد الأوروبي للاهتمام بالمنطقة وهو ما تحقق بالفعل بإصدار الاتحاد الأوروبي أبريل 2021، وثيقة استراتيجية التعاون في الإندوباسيفيك، ثم إصدار المفوضية الأوروبية بالتعاون مع الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، سبتمبر 2021، وثيقة أخرى بعنوان استراتيجية الاتحاد الأوروبي للتعاون مع الإندوباسيفيك. كما نادت بريطانيا باعتبار منطقة الإندوباسيفيك كجزء من التأصيل لصعود بريطاني عالمي بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي في إطار البريكست.
تنافس أمريكي - فرنسي
أدى تنوع الاستراتيجيات التي تهتم بمنطفة الإندوباسيفيك إلى تنوع المصالح وربما تعارضها، وهو الأمر الذي يعكسه بوادر التنافس الأمريكي الفرنسي في تلك المنطقة، التي يمكن الإشارة إلى أهم مؤشراته على النحو التالي:
(*) سلسلة التحالفات الأمريكية: جسدت التحالفات الأمريكية في منطقة الإندوباسيفيك التوجه الأمريكي نحو محاصرة الصعود الصيني، كان أبرز تلك التحالفات هو "أوكوس"، الذي ضم كلًا من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا، سبتمبر 2021. وهو التحالف الذي استبعد فرنسا من أن تكون عضوًا به أو من الصفقة المتعلقة بإمداد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية، جعلت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يصفها بمثابة الطعن في الظهر من الحلفاء، وانعدام للثقة. كما اتجهت الولايات المتحدة الأمريكية نحو تفعيل تحالف كواد، الذي يضم الولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا والهند واليابان. وهي التحالفات التي تسعى بالأساس لمحاصرة الصعود الصيني وتعزيز نفوذ واشنطن وهيمنتها على تفاعلات السياسة الدولية، ودعم الحلفاء. لذلك اعتبر وزير الدفاع الأمريكي في كلمته أمام مؤتمر شانجريلا للأمن أن الصين بمثابة تهديد حقيقي ووشيك على استقرار المنطقة، ودعا حلفاء واشنطن الآسيويين إلى رفع الإنفاق الدفاعي، وتسريع جهود الردع، واصفًا المنطقة بأنها جبهة أولى في الدفاع عن القيم الغربية.
(*) مقترح ماكرون لتدشين تحالف دولي بين أوروبا وآسيا: اشتملت الكلمة الافتتاحية لمؤتمر شانجريلا، التي ألقاها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على مقترح إقامة تحالف إيجابي جديد بين أوروبا وآسيا، يقوم على الدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد، دون الاصطفافات الحادة بين الولايات المتحدة والصين، وشدد ماكرون على مفهوم الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي، مُحذرًا من أن أوروبا قد تستخدم كأداة في نزاعات الآخرين، إذا لم تحدد بوصلتها بنفسها. هذا المقترح يأتي امتدادًا لتوجهات ماكرون، التي سبق وطرحها بشأن الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية عن الولايات المتحدة الأمريكية، والدعوة لتأسيس جيش أوروبي مستقل يتمكن من مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، بعد أن وصف حلف الناتو بأنه يعاني موتًا دماغيًا، فضلًا عن دعوته لتحقيق الردع النووي لحماية الحلفاء الأوروبيين.
(*) جولة ماكرون الآسيوية: جاءت جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي زار خلالها كلًا من فيتنام وإندونيسيا وسنغافورة، خلال الأسبوع الأخير من مايو 2025، لتحمل العديد من الرسائل، منها محاولة فرنسا طرح نفسها كقوة تحقق التوازن الاستراتيجي، وتعزز التعاون التنموي مع دول جنوب شرق آسيا بعيدًا عن التنافس الأمريكي الصيني على منطقة الإندوباسيفيك، الذي يُسهم في تغذية الصراعات والاستقطابات بين دول المنطقة وفقًا للتصور الفرنسي.
(*) تصاعد الخلاف الأمريكي - الأوروبي: أدى تنوع الخلافات الأمريكية - الأوروبية سواء ما يتعلق بالمقاربة الأمريكية للصراع الروسي الأوكراني أو الرسوم التجارية، التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الدول الأوروبية، فضلًا عن مطالبته الدول الأعضاء لزيادة إنفاقها الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي لاختلاف الرؤي الأمريكية والأوروبية إزاء الصراعات الدولية ومنها الصراع على منطقة الإندوباسيفيك. وهو الأمر الذي انعكس على مطالبة واشنطن للأوروبيين بالتركيز على أمنهم القاري لموازنة النفوذ الروسي، في المقابل رفض عدد من القادة الأوروبيين منهم الرئيس الفرنسي ماكرون تحييد أوروبا عن تفاعلات الإندوباسيفيك، كما أشارت كاجالا كالاس، وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي، إلى الارتباط بين أمن أوروبا وأمن آسيا، ودعت إلى مزيد من الانخراط الأوروبي الفعّال للمساهمة في تشكيل التوازنات بمنطقة الإندوباسيفيك.
الخلاصة؛ إن بوادر التنافس الأمريكي الفرنسي على منطقة الإندوباسيفيك تعكس تباين الرؤى الأمريكية والأوروبية، وفي مقدمتها الرؤية الفرنسية التي طرحها ماكرون وتقوم على تدشين تحالف استراتيجي جديد ما بين أوروبا وآسيا يتبنى الدفاع عن النظام الدولي القائم على القواعد، دون الاصطفافات الحادة بين الولايات المتحدة والصين. "فهل سيتم ترجمة هذا المقترح على أرض الواقع، أم أن التنافس الأمريكي الصيني على موارد ومستقبل الإندوباسيفيك سيحول دون ذلك؟".