في ظل تصعيد غير مسبوق بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة وإيران على الجهة الأخرى، تتجه الأنظار نحو البرنامج النووي الإيراني، فرغم تلك الضربات، لا تزال التقديرات الاستخباراتية الغربية تشير إلى أن طهران تحتفظ بقدرات فنية ومكونات تكنولوجية قد تمكّنها من إعادة إطلاق مشروعها النووي إذا اختارت ذلك سياسيًا، وسط رقابة استخباراتية مكثفة من تل أبيب وواشنطن.
عمق إيران
في نوفمبر 2020، اغتيل محسن فخري زادة، كبير العلماء النوويين الإيرانيين، وأحد مهندسي مشروع الأسلحة النووية الإيراني السابق، حين استهدفه رشاش عن بُعد وهو يقود سيارته مع زوجته في طريقه إلى منزله الريفي، وفق ما أفادت به السلطات الإيرانية.
وقد شكّل هذا الحادث، وفقًا لـ NBC News الأمريكية، علامة فارقة تكشف عن مدى توغل جهاز الاستخبارات الإسرائيلي (الموساد) داخل إيران.
وفي الأسابيع الماضية، قُتل عدد من العلماء الإيرانيين الآخرين في عمليات نُسب تنفيذها إلى إسرائيل، ما كشف المزيد من الثغرات الأمنية العميقة داخل البنية الدفاعية الإيرانية.
وبحسب NBC News، يواجه صانعو القرار في إيران معضلة استراتيجية بعد استهداف الدفاعات الجوية والمنشآت النووية بشكل مكثف من قبل كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، إذ أصبح أمامهم خياران إما القبول بتسوية سياسية مع واشنطن والتخلي عن تخصيب اليورانيوم، وإما إعادة إحياء برنامج الأسلحة النووية السري الذي كان يديره فخري زادة.
وعكس دول مثل كوريا الشمالية أو باكستان، لا يمكن لإيران أن تعتمد على سرية المشروع، إذ تُجمع تقارير الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية على قدرة إسرائيل على اختراق العمق الأمني الإيراني، وكشف أنشطتها النووية، بل وتحييد الشخصيات الرئيسية.
وقال إريك بروير، مسؤول استخبارات أمريكي سابق يعمل الآن مع "مبادرة التهديد النووي"، إن "التحدي الأكبر لإيران ليس فنيًا، بل يتمثل في إخفاء أي مسار نووي سري عن أعين الولايات المتحدة وإسرائيل".
وأضاف: "كلا البلدين، خاصة إسرائيل، أثبتا قدرتهما على اختراق البرنامج النووي الإيراني، بل واستخدام القوة لتدميره".
قنبلة نووية سرية
في الغارات الأخيرة، دمّر سلاح الجو الإسرائيلي الدفاعات الجوية الإيرانية، بحيث باتت إيران، بحسب مسؤولين استخباراتيين نقلت عنهم NBC News، غير قادرة على حماية أي منشأة، وخاصة النووية منها، من هجمات جوية إسرائيلية أو أمريكية.
وقال مارك بوليمروبولوس، ضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، إن إسرائيل تتمتع بـ"سيطرة استخباراتية كاملة على الداخل الإيراني"، وأضاف: "إذا اكتشفوا تهديدًا، فسوف يدمرونه، سواء عبر ضربات عسكرية أو عمليات سرية".
وتاريخيًا، حاولت إيران تطوير قنبلة نووية سرًا منذ أكثر من عقدين. وقد كُشف هذا البرنامج عام 2002 بعد ظهور صور أقمار صناعية لمواقع تخصيب في نطنز ومصنع للماء الثقيل في أراك.
وفي 2018، سرق الموساد الإسرائيلي وثائق من أرشيف نووي سري في طهران، تُظهر خططًا لبناء خمس قنابل نووية، وقد أكدت الولايات المتحدة صحة هذه الوثائق.
وأفادت وكالات الاستخبارات الأمريكية أن إيران تخلت عن مشروعها العسكري النووي في 2003، على خلفية الغزو الأمريكي للعراق، لكن NBC News تقول إن إيران حافظت منذ ذلك الحين على برنامج نووي "مدني"، يمنحها القدرة التقنية على استئناف مسار تسلح إذا قررت ذلك.
نماذج سابقة
وتستعرض "NBC News" مقارنة بين التجارب النووية السرية في دول أخرى، إذ بنت إسرائيل ترسانتها بمساعدة فرنسية في خمسينيات القرن الماضي، دون أن تُبلغ حليفها الأمريكي رسميًا.
أما الهند فاستخدمت وقودًا نوويًا قدمته لها الولايات المتحدة وكندا لأغراض "سلمية"، لكنها أعادت معالجته سرًا لصنع سلاح نووي، وفي باكستان اعتمدت على شبكة عبد القدير خان، الذي اقتبس مخططات أجهزة طرد مركزي وشارك تقنيته لاحقًا مع إيران وكوريا الشمالية.
وفي إيران، التي دعمتها الولايات المتحدة نوويًا قبل ثورة 1979 في إطار برنامج "الذرة من أجل السلام"، لم تعد بحاجة إلى دعم خارجي في التقنية، لكنها تواجه تحديًا كبيرًا في البنية التحتية، خاصة بعد الضربات الإسرائيلية الأخيرة.
ورغم الأضرار الكبيرة التي لحقت بالمواقع، تقول مصادر استخباراتية إن إيران لا تزال تمتلك كميات من اليورانيوم عالي التخصيب، وأجهزة طرد مركزي لم يُحدد موقعها.
وفقًا لـNBC News، فإن إنتاج معدن اليورانيوم يبقى العقبة الأكبر، إذ لم يكن لدى إيران سوى منشأة واحدة لتحويل اليورانيوم إلى المعدن المطلوب لصنع القنبلة، وقد دمرتها الغارات في أصفهان، ولا توجد معلومات مؤكدة حول وجود بديل سري لهذه المنشأة.
حماية النظام
ويرى مارفن وينباوم، الزميل في معهد الشرق الأوسط، أن الغارات الأخيرة قد تدفع طهران للاعتقاد بأن امتلاك السلاح النووي هو السبيل الوحيد لحماية النظام.
وأضاف: "ما حدث يُعطي إيران كل الأسباب لتقول نحتاج قنبلة كي نحظى بمعاملة مختلفة".
في محاولة لتقليل التصعيد، من المقرر أن يلتقي المبعوث الرئاسي الأمريكي ستيف ويتكوف بمسؤولين إيرانيين لمناقشة اتفاق نووي جديد، يتضمن وقف تخصيب اليورانيوم مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية.
في المقابل، تُركّز أجهزة الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية على مراقبة التحركات النووية الإيرانية، وكما قال بوليمروبولوس: "ستُراقب وكالات التجسس كل خطوة، وكل منشأة، وكل عالم في إيران، لأن مجرد غفلة واحدة قد تغير وجه المنطقة".