ألحقت الغارات الجوية الإسرائيلية على المواقع النووية الإيرانية أضرارًا ببعض مرافق الأبحاث والبنية الأساسية فوق الأرض، لكن لا يبدو أنها أدت إلى القضاء على الآلاف من أجهزة الطرد المركزي المدفونة عميقًا تحت الأرض، والتي تعمل على تخصيب اليورانيوم إلى درجة قريبة من الدرجة المستخدمة في صنع الأسلحة، أو مئات الأرطال من المواد التي أنتجتها بالفعل، وفقا لما نقلته صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، عن مجموعة واسعة من الخبراء في مجال منع الانتشار النووي وإيران.
وذكرت الصحيفة أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو صرح عند شن الهجمات بأن "البرنامج الإيراني يشكِّل تهديدًا وجوديًا تنوي إسرائيل تدميره"، وقال في خطاب صباح أمس الجمعة: "ضربنا قلب برنامج التخصيب النووي الإيراني".
حجم الأضرار
لكن استنادًا إلى التقارير والتصريحات الصادرة عن كلا البلدين، بالإضافة إلى مقاطع الفيديو والصور الجوية للمواقع التي تضررت حتى الآن، وتلك التي لم تُصَب بأذى بعد، لم يلحق أي ضرر لا رجعة فيه، كما قال الخبراء لـ"واشنطن بوست".
قال ريتشارد نيفيو، كبير المفاوضين الأمريكيين مع إيران في عهد إدارة أوباما، وهو الآن زميل في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى: "إلى أن أعرف أن فوردو اختفى، وإلى أن أعرف مكان ذلك اليورانيوم عالي التخصيب، وأعرف ما إذا كان صالحًا للاستخدام، سأعتبر أننا على وشك الانتهاء.. هذا كل ما يهم الآن".
تقع منشأة فوردو خارج مدينة قم على بعد نحو 100 ميل جنوبي طهران، وهي واحدة من منشأتي تخصيب اليورانيوم الكبيرتين تحت الأرض في إيران، والأكثر عمقًا في الأرض.
أما الموقع الآخر فهو نطنز، الواقعة على بعد 160 كيلومترًا جنوبًا في محافظة أصفهان، والذخيرة التقليدية الوحيدة التي يعتقد أنها قادرة على تدمير مخابئ التخصيب الجوفية هي القنبلة الأمريكية الخارقة للذخائر الضخمة، وهي قنبلة دقيقة التوجيه تزن 30 ألف رطل، ولا تمتلكها إسرائيل.
وقالت كيسلي دافنبورت، مديرة سياسة منع الانتشار في جمعية الحد من الأسلحة، إن "إسرائيل قادرة على إلحاق الضرر بالمنشآت النووية الإيرانية الرئيسية، ولكنها لا تستطيع تدمير المواقع المحصنة مثل فوردو دون مساعدة عسكرية أمريكية".
واعترف تساحي هنجبي، رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، بأن البرنامج النووي الإيراني "لا يمكن تدميره بالوسائل الحركية"، وقال في مقابلة أجرتها معه "القناة 12" الإسرائيلية إن "الأمريكيين وحدهم قادرون على تحقيق ذلك، ولكن ليس من خلال توفير قنبلتهم الخارقة للتحصينات، ولكن من خلال الصفقة التي عرضها الرئيس دونالد ترامب والتي ستتخلى فيها إيران طواعية عن برنامجها النووي مقابل السلام ورفع العقوبات".
وقال ديفيد أولبرايت، الذي درس البرنامج النووي الإيراني لعقود من الزمن، إن الجولة الأولى من الضربات الإسرائيلية لم تكن تهدف على ما يبدو إلى إعطاء الأولوية لتدمير البنية التحتية النووية الإيرانية، ولكن بدلًا من ذلك، يبدو أن الجيش الإسرائيلي استغل عنصر المفاجأة لقتل كبار القادة العسكريين الإيرانيين والعلماء النوويين وتعطيل الدفاعات الجوية.
ورغم ورود تقارير عن وقوع انفجارات بالقرب من فوردو، إلا أن إسرائيل لا يبدو أنها ضربت المنشأة الرئيسية المدفونة على عمق كبير تحت الأرض، وقال إريك بروير من مبادرة التهديد النووي: "قبل ذلك، كان الاعتقاد السائد هو أن إيران قادرة على إنتاج ما يكفي من اليورانيوم المخصب لصنع قنبلة في أقل من أسبوع.. وإذا كان موقع فوردو لا يزال يعمل، وإذا كانت المواد المخزنة هناك لا تزال سليمة، فإن هذا الجدول الزمني لم يتغير".
إنتاج القنبلة النووية
وتظل المدة المقدرة التي تحتاجها إيران لتحويل تلك المواد إلى جهاز نووي قابل للاستخدام غامضة، إذ تتراوح تقديرات الاستخبارات والخبراء بين عدة أشهر إلى عام.
في نطنز، دمرت الضربات عدة منشآت فوق الأرض، وألحقت أضرارًا جسيمة بالنظام الكهربائي، ما أدى إلى انقطاع التهوية والكهرباء فوق الأرض وتحتها، كما دمرت أيضا منشأة أبحاث صغيرة، وهي منشأة التخصيب الوحيدة فوق الأرض في إيران، وفق تقرير صادر عن معهد أولبرايت، استنادًا إلى دراسة صور الأقمار الصناعية عالية الدقة.
وقال ديكر إيفليث، المحلل المتخصص في صور الأقمار الصناعية: "أود أن أقول إنهم عطلوا المنشأة من خلال تدمير محطة الطاقة الفرعية، لكنهم لم يدمروا المنشأة بطريقة تؤثر على قدرة إيران على إنتاج سلاح على المدى الطويل.. إنهم بحاجة فعليًا إلى تدمير أجهزة الطرد المركزي للقيام بذلك".
قال جيفري لويس، الأستاذ في معهد ميدلبري للدراسات الدولية، بعد مراجعة صور الأقمار الصناعية لنطنز، إن "المنشأة تحت الأرض حيث يتم تصنيع أجهزة الطرد المركزي المتطورة نجت أيضًا.. لذا أفترض أنهم سيواصلون إنتاجها".
ومن بين المواقع النووية الأخرى التي أفادت التقارير بتعرضها لضربات، ما وصفه الجيش الإسرائيلي بأنه منشأة لإنتاج معدن اليورانيوم في أصفهان، ومجمع عسكري في بارشين، ومفاعل "أراك للماء الثقيل" جنوب غربي طهران، ومحطة بوشهر للطاقة النووية.
ومن بين المواقع العسكرية المستهدفة، أظهرت مقاطع فيديو متعددة تحققت منها "واشنطن بوست" عمودًا ضخمًا من الدخان الأسود يتصاعد من محيط مطار شهيد مدني الدولي في تبريز، وقال الجيش الإسرائيلي إنه دمَّر قاعدة تستخدمها القوات الجوية الإيرانية.
لكن يبدو أن منشآت الطرد المركزي وتخزين اليورانيوم ظلت سليمة، وقال كينيث بولاك، المسؤول السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والبيت الأبيض ونائب رئيس معهد الشرق الأوسط للشؤون السياسية: "أتخيل أن الإسرائيليين لديهم خطة بشأن موقع فوردو".
وتكهن بولاك بأن مثل هذه الخطة قد تشمل غارة لقوات خاصة إسرائيلية أو هجمات إلكترونية، وقال: "الحقيقة أننا لا نعرف".
انسحاب الطاقة الذرية
الوكالة الدولية للطاقة الذرية، التي يستطيع مفتشوها الوصول إلى كل من فوردو ونطنز، ويتابعون جودة وكمية اليورانيوم المخصب الذي تنتجه إيران، من غير المرجح أن تعود إلى هذه المهام في المستقبل القريب، إذ قال المدير العام للوكالة رافائيل جروسي، أمس الجمعة، إن المفتشين من تلك المنشآت تم سحبهم من أجل سلامتهم.
لكن ما لا يعرفه المفتشون هو ما إذا كانت هناك أجهزة طرد مركزي إضافية متطورة في منشآت جديدة أو غير معروفة، أو ما إذا كانت أي من الأسطوانات التي تحتوي على مخزون اليورانيوم عالي التخصيب قد تم نقلها بالفعل من مواقع الإنتاج.
وقال نيفيو: "قد يكون مفاعل أراك حفرة دخانية.. لكن إلى أن أعرف ما حدث لذلك اليورانيوم المخصب، لن أشعر بأي ارتياح.. افتراضي المعتاد هو أن الإسرائيليين لديهم اختراق كافٍ للبرنامج لدرجة أنهم على الأرجح يعرفون مكانه.. لكن الإيرانيين يخزنونها في أماكن آمنة، إنهم يعلمون أنها الهدف الرئيسي."
وقال جيم والش، من برنامج الدراسات الأمنية بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إن الهجوم الإسرائيلي قد يشجع أيضًا أولئك داخل الحكومة الإيرانية الذين طالما جادلوا بضرورة أن تسارع البلاد نحو امتلاك سلاح نووي، وأضاف: "لا شك أن الزخم السياسي سيتحول لصالح مؤيدي القنبلة".