حين غادرت الطائرة التابعة لشركة "طيران الهند" مُدرج مطار أحمد آباد في اتجاه لندن، لم تمرّ سوى لحظات حتى تحوّلت السماء إلى مسرح مأساوي، إذ تحطمت الطائرة بعد دقائق من الإقلاع، وبينما تواصل فرق الإنقاذ انتشال الرفات والأشلاء، يُعلّق الأمل اليوم على جهاز صغير، ذات لون برتقالي يعرف باسم "الصندوق الأسود"، الذي يحمل مفاتيح الإجابة عن سبب الكارثة.
كارثة في كلية الطب
وتحطمت طائرة ركاب من طراز بوينح 787-8 تابعة لشركة "طيران الهند"، كانت متجهة إلى مطار جاتويك في لندن، صباح اليوم الخميس، في مدينة أحمد آباد الواقعة شمال غرب البلاد، بعد وقت قصير من إقلاعها، وعلى متنها 232 راكبًا و10 من أفراد الطاقم.
وانفجرت الطائرة بالكامل وسقطت قرب سكن تابع لكلية طبية، على مسافة قريبة من مطار أحمد آباد في ولاية غوجارات، مسقط رأس رئيس الوزراء ناريندرا مودي، وهي المدينة التي يقطنها أكثر من 5 ملايين نسمة، التي شهدت حالة من الذعر والرعب، إثر تصاعد أعمدة الدخان الأسود والنيران، التي أكلت الحطام والمباني المحيطة، وفق صحيفة "تايمز أوف إينديا" الهندية.
وحاول رجال الإطفاء احتواء ألسنة اللهب التي امتدت إلى المباني المجاورة، إذ كانت الطائرة لا تزال محملة بالكامل بالوقود، ما ضاعف من شدة الانفجار، وتناثرت الجثث المتفحمة وأشلاء الركاب، فيما انتشرت فرق الجيش الهندي والسلطات المدنية في محيط المكان للمساعدة في إزالة الأنقاض وإسعاف الجرحى.
الصندوق البرتقالي
وذكرت "تايمز أوف إينديا"، أن الطائرة كانت بقيادة الكابتن سوميت سابهاروال، ومساعده كلايف كوندار، اللذان واجها صعوبات بعد وقت وجيز من الإقلاع، ولم تتمكن الطائرة من الارتفاع لأكثر من 625 قدمًا قبل أن تتحطم.
وتتركز التحقيقات الأوليّة حاليًا على محاولة استرجاع الصندوق الأسود، إذ يُعوَّل عليه لتحديد السبب الدقيق للحادث، وهل هو عطل ميكانيكي أم خلل في المحرك أم اصطدام طائر أم حريق داخلي أم خطأ بشري؟
ورغم تسميته الشائعة، فإن الصندوق الأسود ليس أسود اللون، بل برتقاليًا فاقعًا ليسهل العثور عليه وسط الأنقاض، وكل طائرة تجارية تحمل نوعين منه، الأول مسجّل بيانات الرحلة (FDR) الذي يتعقب أداء المحرك، والسرعة، والارتفاع، وزاوية الانحدار، وأوامر التحكم، والثاني مسجّل صوت قمرة القيادة (CVR)، الذي يسجل المحادثات بين الطيارين، الإنذارات، والأصوات الميكانيكية.
وتمتد البيانات المسجّلة لـ25 ساعة من الطيران، بما في ذلك رحلات سابقة قد تحتوي على إشارات إنذار مبكر عن أعطال متراكمة، بمجرد العثور عليهما، يتم إرسال الصندوقين إلى مختبرات الطب الشرعي التابعة لهيئة الطيران المدني الهندية أو مكتب التحقيق في حوادث الطائرات.
وتُستخرج المعلومات من الصندوقين وتُفك شفراتها باستخدام تقنيات متقدمة، ويستغرق التحليل النهائي أيامًا أو حتى أسابيع، حسب الضرر، لكن التقارير الأولية عادةً ما تصدر خلال 24 ساعة لتوجيه مجريات التحقيق.
أمثلة من التاريخ القريب
لطالما مثّل الصندوق الأسود حجر الزاوية في التحقيقات الجوية، ففي حادثة جيرمان وينجز 2015، كشفت تسجيلاته أن مساعد الطيار تعمّد إسقاط الطائرة، وفي الهند، لعب دورًا محوريًا في تحديد أسباب تحطم طائرة كوزيكود عام 2020، عندما فشل الطيار في الهبوط ضمن الظروف الجوية السيئة.
وأهمية الصندوق الأسود تتجلى في كونه شاهدًا صامتًا، لكنه لا يكذب، في ظل غياب الشهود أو غموض الأدلة، يمثل هذا الجهاز الحمض النووي للتحقيقات الجوية، إذ يُعيد تركيب تسلسل الأحداث لحظة بلحظة، و"يمكّن المحققين من فهم ليس فقط ما حدث، بل لماذا وكيف؟".
ولا يكتفي تحليل البيانات من الصندوق الأسود بتحديد الخطأ، بل يُترجم إلى دروس تُنقذ الأرواح، فقد أدت هذه التحليلات عبر السنوات إلى تحسين بروتوكولات التدريب، وتعديل تصاميم الطائرات، وتطوير أنظمة التحذير المبكر.
وبهذا المعنى، فإن كل دقيقة تُسجّل في الصندوق الأسود، وإن كانت شاهدة على مأساة، فهي أيضًا لبنة في جدار سلامة الملاحة الجوية.