الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

تداعيات انسحاب "فاجنر" الروسية من مالي

  • مشاركة :
post-title
عناصر من "فاجنر" في مالي

القاهرة الإخبارية - ساجدة السيد

في خضم الصراع الدولي المتنامي على القارة الإفريقية، تبرز مالي بوصفها ساحة مفتوحة لإعادة رسم توازنات النفوذ بين القوى الكبرى، خاصًة بعد تراجع الدور التقليدي للقوى الغربية، وتحديدًا فرنسا التي فشلت في تحقيق الاستقرار الأمني رغم سنوات من الوجود العسكري. هذا التراجع فتح الباب أمام قوى بديلة، وفي مقدمتها روسيا، التي دفعت بمجموعة "فاجنر" إلى المشهد المالي منذ عام 2021، لتكون أداتها غير الرسمية في تنفيذ السياسات على الأرض. وبعد نحو أربع سنوات من الوجود العسكري شبه الرسمي، في الثامن من يونيو 2025، أعلنت مجموعة "فاجنر" الروسية رسميًا إنهاء دورها في مالي، تاركة وراءها فراغًا أمنيًا ومشهدًا معقدًا من التحديات، على أن يتولى "الفيلق الإفريقي" التابع لوزارة الدفاع الروسية مهام فاجنر. وقد مثّل هذا الحدث تحولًا لافتًا في نمط التدخل الروسي. فالانسحاب لا يمكن فهمه باعتباره مجرد تحول إداري في شكل الحضور الروسي، بل هو لحظة كاشفة عن حجم التحولات داخل فاجنر نفسها، وطبيعة التحديات الإقليمية والدولية التي تواجهها روسيا في إدارة ملفاتها الإفريقية.

تأسيسًا على ما تَقَدَم، يسعى التحليل للإجابة عن سؤال: ما تداعيات انسحاب مجموعة "فاجنر" الروسية من مالي؟

دواعي الانسحاب

جاء قرار انسحاب مجموعة "فاجنر" الروسية من مالي نتيجة حزمة معقدة من العوامل، تتمثل أبرزها في:

(*) انهيار مركزية القيادة بعد مقتل بريجوجين: شكّل مقتل قائد فاجنر "يفجيني بريجوجين" في حادث طائرة غامض في أغسطس 2023، نقطة تحول حاسمة في مصير المجموعة، فقد أدى الحادث إلى تصدع الشبكة الدولية لفاجنر وتآكل نفوذها، مقابل تصاعد هيمنة وزارة الدفاع الروسية على أنشطتها. وقد عبّرت حسابات تابعة للمجموعة عن نهاية دورها بوضوح، إذ نُشرت رسالة على "تليجرام" في يونيو 2025 جاء فيها: "المهمة أُنجزت. مجموعة فاجنر تعود إلى الديار"، بما يؤكد الانسحاب الكامل من الأراضي المالية.

(*) التحديات اللوجستية والمالية: مع اتساع رقعة نشاط الجماعات الجهادية، خاصة في شمال مالي، واجهت فاجنر صعوبات متزايدة في إدارة عملياتها، في ظل تضاؤل الدعم الروسي نتيجة العقوبات الغربية وتراجع عوائد الاستغلال غير الرسمي للموارد، كالذهب. وقد أدى هذا الوضع إلى تحوّل فاجنر من ورقة رابحة إلى عبء ميداني، يصعب تمويله واستمراره بالوتيرة السابقة.

(*) الضغوط الداخلية: رغم الدور الذي أدّته فاجنر في مواجهة الجماعات المسلحة، إلا أن تجاوزاتها العسكرية خلّفت موجة انتقادات داخلية ودولية، فقد وُجّهت إليها اتهامات بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، لا سيما في بلدة "مورا" عام 2022، ما وضع الحكومة المالية في موقف سياسي وأخلاقي حرج، ودفعها إلى البحث عن شريك أمني أقل إثارة للجدل وأكثر انضباطًا.

(*) تبدُل التحالفات الإقليمية: أدى الصراع السياسي الداخلي في مالي خلال عامي 2020 و2021 إلى وصول المجلس العسكري بقيادة أسيمي جويتا، الذي سعى لفك الارتباط مع فرنسا واللجوء إلى الشراكة مع فاجنر. غير أن تغير الديناميكيات الدولية وتزايد الضغوط الغربية على باماكو، إلى جانب تعثر عملية الانتقال السياسي والانكماش الاقتصادي، جعل الإبقاء على العلاقة مع فاغنر خيارًا باهظ الثمن سياسيًا، ما عجّل بإنهائها.

تداعيات محتملة

يُتوقع أن يخلّف انسحاب مجموعة "فاجنر" الروسية من مالي مجموعة من التداعيات الأمنية والسياسية، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي، أبرزها:

(*) فراغ أمني في مناطق التوتر: شكّل الوجود الميداني لفاجنر عنصرًا حاسمًا في المعادلة الأمنية، خصوصًا في مناطق وسط وشمال مالي، حيث تنتشر الجماعات المسلحة بشكل واسع. فالمجموعة كانت تتبنى أسلوبًا هجوميًا يفوق قدرات الجيش المالي المحدودة من حيث التسليح والخبرة. ومع انسحابها، يبدو أن ميزان القوى بدأ يميل مجددًا لصالح الجماعات المتشددة مثل "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" وتنظيم "داعش في الصحراء الكبرى"، ما ينذر بتصاعد وتيرة الهجمات والانفلات الأمني في الفترة المقبلة.

(*) تراجع جاهزية القوات المالية: تعاني المؤسسة المالية من ضعف بنيوي واضح، سواء على مستوى التدريب أو التنسيق العملياتي، وهي أزمة تعمقت بعد قطع الدعم الغربي على خلفية توتر العلاقات مع الدول الأوروبية. وفي هذا السياق، يصعب على باماكو أن تسد الفجوة التي خلّفها انسحاب فاجنر، خصوصًا في ظل هشاشة البديل الروسي الجديد المتمثل في "فيلق إفريقيا"، الذي لا يزال في مرحلة التشكل التنظيمي. وعلى المستوى الاقتصادي، يُرجّح أن تفقد الجهات المرتبطة بفاجنر امتيازاتها، وعلى رأسها السيطرة على منجم الذهب الحرفي في "أنتاهاكا"، أحد أبرز مصادر الدخل غير الرسمي للمجموعة منذ فبراير 2024.

(*) فتح المجال أمام عودة النفوذ الغربي: يفتح غياب فاجنر الباب أمام قوى دولية أخرى لإعادة تموضعها في منطقة الساحل، وعلى رأسها فرنسا التي وإن توترت علاقاتها مع باماكو، قد تجد فرصة لإعادة بناء نوع من التنسيق الميداني المحدود، خاصة إذا تبيّن فشل البدائل الروسية. كما يمكن للاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية أن يستغلا الوضع لتعزيز حضور استخباراتي أو لوجستي، في إطار استراتيجية أوسع لمكافحة الإرهاب وضمان الاستقرار الإقليمي.

(*) انعكاسات على التحالفات الإقليمية: تتجاوز تداعيات انسحاب فاجنر حدود مالي، لتمس البنية الأمنية الهشة في منطقة الساحل برمتها، لا سيما في ظل الارتباط العضوي بين مالي وكل من بوركينا فاسو والنيجر في إطار تحالف دول الساحل الثلاث. وكان هذا المحور العسكري يعول على فاجنر كمصدر دعم مشترك، سواء في مكافحة الإرهاب أو في مواجهة الضغوط الغربية. لكن تراجع الدور الروسي قد يدفع شركاء مالي إلى مراجعة حساباتهم، وربما إعادة تقييم علاقتهم مع موسكو، في ظل المخاوف من فقدان الدعم الفعلي في حالات الطوارئ.

ختامًا، لا يُعد انسحاب مجموعة "فاجنر" من مالي مجرد نهاية لمرحلة من الوجود العسكري الروسي غير التقليدي، بل يمثل تحوّلًا استراتيجيًا أعمق في كيفية إدارة موسكو لنفوذها في إفريقيا، وسط ضغوط داخلية وخارجية متزايدة. فرغم أن "فيلق إفريقيا" جاء كامتداد رسمي لتأمين مصالح روسيا في المنطقة، فإن طبيعة التحول من كيان خاص غير منضبط إلى قوة نظامية تابعة للدولة تطرح تساؤلات جدية حول فعالية هذا النموذج، وقدرته على التعامل مع التحديات المعقّدة في منطقة الساحل التي تعاني من هشاشة أمنية، وتمدد الجماعات المسلحة، وتداخل النفوذ الأجنبي.

ومع هذا الانسحاب، تدخل مالي مرحلة جديدة، سيكون عنوانها اختبار البدائل، ومدى قدرة "فيلق إفريقيا" أو غيره من الفاعلين الدوليين على تحقيق استقرار حقيقي لا يقوم على القوة وحدها، بل على إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وضبط التوازنات الخارجية دون الوقوع في فخ التبعية لأي طرف، ومن ثم لا يمكن قراءة انسحاب فاجنر كخسارة روسية أو مكسب لخصومها، بل كعلامة فارقة في مسار صراع طويل الأمد على إفريقيا، ستظل ساحاته مفتوحة على كل الاحتمالات.