في وجوه الناس ضحكاتٌ كثيرة، لكن هناك من يترك في الذاكرة ضحكة لا تُنسى، تخرج من القلب وتصل إلى الأعماق، وهذا ما فعله الفنان محمد عوض، الذي تمر اليوم الذكرى الثالثة والتسعون لميلاده، بعدما أصبح واحدًا من رموز الكوميديا الراقية في مصر والعالم العربي، لم يكن مجرد ممثل، بل كان صاحب أسلوب خاص وفكر مسرحي متفرد، حوّل من الضحك رسالة ومن التمثيل فلسفة.
وُلد محمد عوض في الثاني عشر من يونيو عام 1932 بحي العباسية في القاهرة، ودرس في كلية الآداب قسم الفلسفة بجامعة عين شمس، قبل أن يتجه لدراسة المسرح في المعهد العالي للفنون المسرحية، لتكون بداية التحول من الفكر إلى الفن، ومن التأمل في الحياة إلى تجسيدها على الخشبة والشاشة.
بدأ عوض مسيرته من مسرح الجامعة، حيث أسس فرقة تمثيلية أعادت تقديم أعمال نجيب الريحاني التي كان يعشقها، مستعينًا أحيانًا بأحد أبطال مسرحيات الريحاني لحضور عروضه الجامعية. هذا الولع بالمسرح الكلاسيكي صقل موهبته ومنحه أساسًا متينًا لبناء أسلوبه الكوميدي الفريد.
نقطة تحول
انطلقت شهرة محمد عوض من خلال فرقة التلفزيون المسرحية، حين لعب بطولة مسرحية "جلفدان هانم"، التي شكّلت نقلة نوعية في مشواره الفني. وفي هذه المسرحية تحديدًا، قال عبارته الشهيرة "أنا عاطف الأشموني مؤلف الجنة البائسة"، في مشهد جمع بين السخرية والمرارة، وعبّر من خلاله عن أزمة الفنان الحقيقي حين يُغيب اسمه ويسرق مجهوده.
وفي أحد لقاءاته التلفزيونية، أوضح عوض أن المسرحية كانت تحمل بين طياتها نقدًا اجتماعيًا عميقًا رغم قالبها الكوميدي، إذ ناقشت الظلم الذي يواجهه المبدع الحقيقي في ظل هيمنة الوجوه المزيفة.
خفة الظل
بعد نجاحه المسرحي، بدأت رحلته مع السينما، حيث تألق في عدد هائل من الأفلام، مقدّمًا أدوارًا اتسمت بخفة الظل والاعتماد على تعبيرات الوجه والجسد، من أشهر أفلامه "دعني والدموع"، "شقاوة رجالة"، "المغامرون الثلاثة"، "أصعب جواز"، "حارة السقايين"، "إجازة بالعافية"، "مطلوب أرملة"، "شهر عسل بدون إزعاج"، "السيرك"، "كيف تسرق مليونير"، "الحب سنة 70"، "العمياء"، "جنون المراهقات" وغيرها.
تميّز أداؤه بعفوية نادرة، وقدرة فطرية على إضحاك الجمهور دون تصنع، وكان دائمًا قريبًا من الناس، يعكس مشاكلهم اليومية بطابع كوميدي يحمل في طياته رسائل اجتماعية.
العشق الأول
ظل المسرح هو عشقه الحقيقي، فشارك في العديد من الأعمال المسرحية التي حُفرت في ذاكرة الجمهور مثل:
"نمرة اتنين يكسب"، "مراتي تقريبًا"، "الطرطور"، وغيرها من المسرحيات التي رسخت حضوره الكاريزمي على الخشبة.
أسلوبه في المسرح جمع بين مدرسة الريحاني وفنه الخاص، حيث امتلك قدرة على ارتجال المواقف الكوميدية، وكسر الجدار الرابع بطريقة محببة للجمهور، مع احتفاظه بأداء ملتزم ومحترف.
لم يكتفِ محمد عوض بالسينما والمسرح، بل كان له حضور قوي في الدراما التلفزيونية، حيث شارك في مسلسلات "برج الحظ"، "البراري والحامول"، "بنت الحتة"، "أهلاً يا جدو العزيز"، "ناس ولاد ناس"، "الطاووس"، وترك من خلالها بصمة في البيوت المصرية والعربية.
كما كان عضوًا في فرقة "ساعة لقلبك" الإذاعية الشهيرة، التي ساهمت في تعميق علاقته بجمهور واسع من مختلف الأجيال.
إرث لا يُنسى
رحل محمد عوض عن عالمنا في 27 فبراير 1997، لكنه ترك وراءه إرثًا فنيًا ضخمًا، ما زال يُعيد الضحك والدهشة إلى القلوب، ويُدرس كنموذج للكوميديا النبيلة التي تحمل مضمونًا إنسانيًا واجتماعيًا، فهو لم يكن مجرد نجم شباك، بل كان فنانًا مفكرًا، بانيًا لمدرسة فنية مستقلة، وأبًا روحيًا لجيل من الكوميديانات الذين استلهموا من مسيرته أدواتهم.