تتجاوز المعركة الرقمية المشتعلة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والملياردير التكنولوجي إيلون ماسك حدود "إكس"، وتهدد بإعادة تشكيل خريطة الاتصالات العالمية، إذ إن شركة ستارلينك، التي تعمل في 130 دولة بفضل دعم البيت الأبيض، تواجه الآن مستقبلًا غامضًا بعد أن تحوّل "الصديق الأول" لترامب إلى خصم عنيد.
صعود ستارلينك
كشفت مجلة "بوليتيكو" الأمريكية عن كيفية استفادة شركة ستارلينك للإنترنت الفضائي من النفوذ السياسي لمؤسسها إيلون ماسك خلال فترة علاقته الوثيقة بترامب، إذ حصلت الشركة على موافقات استثنائية في عشرات البلدان بفضل الضغوط المباشرة من وزارة الخارجية الأمريكية، حيث قامت دول عديدة بتسهيل إجراءاتها التنظيمية لإرضاء البيت الأبيض.
وبحسب المجلة، منحت فيتنام الموافقة للخدمة في فبراير الماضي، بينما وافقت جمهورية الكونغو الديمقراطية على ترخيص ستارلينك في مايو المنقضي.
كما خفّفت جنوب إفريقيا من قوانينها التي تتطلب تخصيص 30% من أسهم شركات الاتصالات للجماعات المهمشة تاريخيًا، ما يسمح لستارلينك بالعمل دون تلبية هذا الشرط، وحصلت الهند على ترخيص الخدمة يوم الجمعة الماضي، وفقًا للمجلة.
يؤكد كايلب هنري، مدير الأبحاث في شركة "كويلتي سبيس" الاستشارية، أن الدبلوماسية الأمريكية ساعدت ستارلينك في الوصول إلى أماكن يصعب الوصول إليها، مشيرًا إلى أن "ستارلينك حصلت بالفعل على الوصول للأسواق في البلدان السهلة ومتوسطة الصعوبة، وما تبقى هو البلدان الصعبة، وهنا تتدخل وزارة الخارجية الأمريكية".
ورقة ضغط
يكشف خبير الاتصالات بلير ليفين، الذي شغل مناصب عليا في لجنة الاتصالات الفيدرالية الأمريكية في عهد الإدارات الديمقراطية، عن عنصر غير تقليدي في مناقشات وزارة الخارجية حول ستارلينك، وهو ربط سياسة التعريفات الجمركية للبيت الأبيض بالموافقات على خدمات الشركة.
تُظهر حالة ليسوتو نموذجًا واضحًا على هذه الاستراتيجية، حيث كان البلد الإفريقي يسعى للهروب من التعريفات الجمركية بنسبة 50% التي فرضها ترامب، فمنح ستارلينك ترخيصًا في أبريل الماضي.
كما كشفت صحيفة "واشنطن بوست" أن الخارجية الأمريكية أشارت في مذكرة داخلية إلى أن "حكومة ليسوتو تأمل أن يُظهر ترخيص ستارلينك حُسن النية والرغبة في الترحيب بالشركات الأمريكية" أثناء تفاوضها على اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة.
يعلق خبير الاتصالات بلير ليفين على هذا الأمر قائلًا: "السفارات غالبًا ما تمثّل مصالح الشركات الأمريكية، هذا ليس غريبًا، لكن ربط مفاوضات التعريفات الجمركية بشركات معينة، هذا أمر غريب جدًا".
وتؤكد خبيرة سياسات الأقمار الصناعية روث بريتشارد-كيلي هذا التقييم، قائلة: "لا أستطيع القول إنني رأيت من قبل دولة تتوسل إلى الولايات المتحدة ألا تفعل شيئًا كارثيًا.. انظروا، لقد رخّصنا حتى لخدمة الأقمار الصناعية الخاصة بأفضل أصدقائكم، من فضلكم لا تفرضوا تعريفات جمركية علينا".
تهديد إمبراطورية ماسك
مع تصاعد الصراع بين ترامب وماسك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تزداد المخاوف حول مستقبل ستارلينك في المفاوضات الدولية، إذ يحذر مسؤول سابق في ستارلينك، تحدث لمجلة "بوليتيكو" شريطة عدم الكشف عن هويته، من تراجع قوة الشركة التفاوضية، قائلًا: "عندما يجلس المسؤولون التجاريون أو الحكومات للمفاوضات، يفكرون في أوراق المساومة المتاحة لديهم، ولست أعرف حتى ما إذا كانت ستارلينك لا تزال ورقة مساومة".
تشير "كيلي" إلى أن استمرار "ماسك" في موقف معارض لترامب قد يحوله إلى "عبء عالمي على الشركة"، موضحة أن البلدان التي تخشى فرض تعريفات جمركية أمريكية عليها قد تواجه مشكلة في الارتباط بتقنية يديرها شخص "غير مرغوب فيه" لدى ترامب.
رغم أن الصراع بين ترامب وماسك لا يزال محصورًا في الفضاء الرقمي، ولم يتبع ترامب تهديداته بإلغاء عقود الحكومة مع شركة سبيس إكس، إلا أن خبيرة سياسات الأقمار الصناعية بريتشارد-كيلي تحذر من أدوات أخرى يمكن لترامب استخدامها لجعل حياة ماسك صعبة، منها سحب ترخيص تشغيل ستارلينك في الفضاء، قائلة: "لم يحدث هذا من قبل، لكنني أعتقد أنه إذا أراد ترامب حقًا إزعاج ماسك فسيقول.. سأسحب ترخيصك".
عقبات خفية ومقاومة بيروقراطية
يكشف المسؤول السابق في ستارلينك عن إمكانية وضع وزارة الخارجية والحكومة الفيدرالية بشكل عام عقبات خفية أمام الشركة، مثل إبطاء الموافقات أو تقليل وزن تعليقات ستارلينك على السياسات الفيدرالية، مضيفًا: "هناك مساوئ أخرى يمكن أن تصيب ستارلينك أو شركات ماسك الأخرى لمجرد أنها لم تعد تُعتبر الابن المفضل".
سباق عالمي لكسر الاحتكار الأمريكي
في المدى الطويل، من المرجّح أن يحفّز انفصال "ماسك" عن ترامب البلدان الأخرى على تسريع الاستثمار في أنظمتها الخاصة، وفقًا لمحلل الأقمار الصناعية تيم فارار.
وقد كتب كبار المشرّعين في البرلمان الأوروبي، الجمعة الماضي، إلى رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين، يطلبون منها تخصيص 60 مليار يورو للفضاء، بما في ذلك شبكة الاتصالات الساتلية IRIS2 التابعة للاتحاد الأوروبي.
يقول فارار: "ستجد أشخاصًا يريدون المضي قدمًا بـ IRIS2 يستغلون خطر تهديد ماسك بأنه يمكنه إيقاف الأشياء بشكل عشوائي". لكنه يشير إلى أن المنافسين سيحتاجون "سنوات، إن حدث ذلك أصلًا" قبل أن تتمكن خدمات الإنترنت المنافسة من مضاهاة أسطول ستارلينك المكون من أكثر من 7000 قمر صناعي، حتى مع سباق الشركات الصينية ومشروع كايبر التابع لأمازون لإطلاق كوكباتها الخاصة.
ويختتم "فارار" بالقول: "على وزارة الخارجية أن تروّج لمصالح الأقمار الصناعية الأمريكية على حساب المصالح الصينية، وفي الوقت الحالي، ستارلينك هي اللعبة الوحيدة المتاحة".