تشهد ساحات الصراع العالمية تطورًا جذريًا يجمع بين التقنيات المتقدمة وأساليب التجسس التقليدية، بعدما نجحت عمليتان استخباراتيتان حديثتان في إظهار كيف يمكن للقوى الأصغر استخدام الابتكار التكنولوجي لمواجهة خصوم أقوى، إذ تكشف العملية الإسرائيلية ضد حزب الله والعملية الأوكرانية ضد الأسطول الجوي الروسي عن تحول جوهري في طبيعة الحروب المعاصرة.
تغيير موازين
كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن تفاصيل عمليتين استخباراتيتين معقدتين ترى أنهما غيّرتا مجرى الصراعات في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية.
العملية الأولى تمثلت في تفجير أجهزة الاستدعاء وأجهزة اللاسلكي الخاصة بحزب الله (عملية البيجر)، تبعتها ضربات استهدفت القيادات العليا للتنظيم، بمن في ذلك اغتيال حسن نصر الله في سبتمبر الماضي.
هذه العملية متعددة المراحل، التي استغرقت سنوات من التحضير والتسلل إلى صفوف حزب الله، لم تقتصر على إضعاف التنظيم بل ساهمت في خلق الظروف لسقوط نظام بشار الأسد في سوريا بعد شهرين وتقليص النفوذ الإيراني الإقليمي، حسب الصحيفة الأمريكية.
العملية الثانية، التي أطلقت عليها أوكرانيا اسم "شبكة العنكبوت"، نُفذت في الأول من يونيو الجاري واستهدفت خمسة مطارات عسكرية روسية تضم أسطول القاذفات الاستراتيجية، استخدمت فيها كييف طائرات مسيّرة مخفية داخل منازل جاهزة الصنع محملة على شاحنات، ونجحت في ضرب أربعة من المطارات الخمسة، بما في ذلك مطار يقع شمال منغوليا مباشرة.
العملية دمرت أكثر من 20 طائرة، وأصابت 12 طائرة على الأقل بأعطاب، وفقًا لمقاطع الفيديو التي نشرتها الاستخبارات الأوكرانية والصور الفضائية المستقلة.
التكنولوجيا للتغيير الاستراتيجي
يوضح إيال تسير كوهين، المدير السابق في جهاز الموساد، أن "التكنولوجيا اليوم تتيح إمكانات جديدة كثيرة، حيث توجد مساحة أكبر يمكن من خلالها اكتشاف نقاط ضعف العدو بسبب القدرة على تجاوز الكثير من الحواجز المادية التي لم تكن قادرًا على تجاوزها في الماضي".
ويحذر من أن هذه التقنيات تعمل في الاتجاهين، مؤكدًا أن النجاح "يعتمد على الجانب الأكثر تطورًا في استغلال نقاط ضعف الطرف الآخر" وأن "التكنولوجيا تقف على أكتاف العامل البشري وليس العكس".
تشير الأدلة إلى أن روسيا كانت تمتلك نحو 112 قاذفة استراتيجية من طراز Tu-22 وTu-95 قبل العملية الأوكرانية، ولم تعد قادرة على تصنيع هذه القاذفات، كما أن نصف الأسطول فقط كان صالحًا للعمل.
الهجوم قوّض قدرة روسيا على إطلاق الصواريخ الانسيابية عبر أوكرانيا بشكل كبير، ما يمثل ضربة لإحدى أهم المزايا العسكرية الروسية في هذا الصراع، حسب الصحيفة.
فشل الأنظمة التقليدية
يؤكد براين كاتوليس، الباحث البارز في معهد الشرق الأوسط، أن هذه العمليات تكشف عن "فشل في التفكير في مخاطر سلسلة التوريد من جانب حزب الله وروسيا"، واصفًا إياها بأنها "فشل في الخيال"، كما أن النجاح في هذا العالم سريع التغير يعتمد على القدرة على توقع الفرص الجديدة، وهو ما قد تكون القوى الكبيرة مثل روسيا وربما الولايات المتحدة بطيئة في فهمه مع تطور طبيعة الحرب ذاتها.
يضيف "كاتوليس" أن هذا النهج الجديد في الحرب "يعيد توازن القوى لصالح الفاعلين الأضعف".
التأثيرات طويلة المدى
تشير "وول ستريت جورنال" إلى أن خلق البارانويا والفوضى داخل صفوف العدو غالبًا ما يكون مفيدًا بقدر الضرر المادي الفعلي، إذ إن العمليات ضد حزب الله واغتيال قائد حماس في بيت ضيافة حكومية في إيران أجبرت الجماعة اللبنانية على إنفاق موارد كبيرة في مراجعة الخطط والإجراءات والبحث عن جواسيس محتملين ومحاولة معرفة مدى اختراقهم.
الوضع ذاته ينطبق على روسيا، حيث تمكنت الاستخبارات الأوكرانية من تنفيذ عملية معقدة تتطلب على الأرجح عددًا كبيرًا من العملاء الذين عملوا تحت مظلة جهاز الأمن الفيدرالي الروسي.
يشير دان هوفمان، رئيس محطة سابق لوكالة المخابرات المركزية في موسكو، إلى أن "أوكرانيا تعمل "خلف خطوط العدو"، مستخدمة الحرب غير المتماثلة لتوجيه ضربات مضادة لعدو مسلح نوويًا"، مؤكدًا أن "الرمزية قوية لأن بوتين ضابط استخبارات ومع ذلك يعاني العديد من الإخفاقات الاستخباراتية".
دروس دولية مستفادة
تتردد أصداء عملية "شبكة العنكبوت" عبر حلفاء الناتو الذين يدرسون الابتكارات التي نشرتها أوكرانيا، بما في ذلك استخدام الذكاء الاصطناعي لمساعدة الطائرات المسيّرة في الوصول إلى أهدافها، كما أن العملية أظهرت كيف يمكن لأوكرانيا استخدام التفوق التكنولوجي لزيادة فعالية عملياتها الاستخباراتية.
حوّلت العملية ميزة روسية، وهي اتساعها الجغرافي، إلى نقطة ضعف، من خلال ضرب أهداف متباعدة آلاف الأميال في وقت واحد.
يؤكد توماش كوبيتشني، المبعوث الحكومي التشيكي لأوكرانيا، أن "كل جيش يتعلم من هذا (عملية شبكة العنكبوت)، مضيفًا: "في الماضي، كان لديك قوات خاصة في غواصة صغيرة ربما، تقترب من جسر وتزرع بعض المتفجرات، الآن لديك طائرات مسيّرة تفعل كل ذلك. إنها تكنولوجيا هذه العمليات".