في لحظة مشحونة بالتوترات السياسية، وقف لي جاي ميونج وسط حشود مناصريه في قلب العاصمة سول، معلنا النصر بأكبر منصب في البلاد، وخلفه أصداء ماضٍ قاسٍ لرجلٍ حمل المطرقة والمفك في مصانع الطفولة قبل أن يعتلي هرم السلطة، معلنًا ميلاد عهد جديد في كوريا الجنوبية، بعد أشهر من الفوضى الدستورية التي هزت أركان البلاد.
انتصار تاريخي
أسفرت النتائج الرسمية للانتخابات المبكرة في كوريا الجنوبية عن فوز زعيم المعارضة لي جاي ميونج بمنصب الرئيس، متقدمًا بأكثر من مليوني صوت على مرشح الحزب الحاكم كيم مون سو، الذي أقرّ بالهزيمة فجر الأربعاء قائلاً: "أقبل بتواضع قرار الشعب".
وجاءت الانتخابات في أعقاب أشهر مضطربة عاشتها البلاد بعد أن أعلن الرئيس السابق يون سوك يول الأحكام العرفية، مغرقًا كوريا الجنوبية في فراغ سياسي ودستوري، ويأمل الكوريون أن يشكّل فوز لي بداية الاستقرار المنتظر بعد نصف عام من الفوضى.
في خطابه أمام آلاف المؤيدين في العاصمة، تجنّب لي إعلان النصر المباشر، مكتفيًا بالقول: "أنا الشخص ذو الحظوظ العالية جدًا ليكون رئيسكم القادم"، ومع ذلك، اتسم خطابه بأجواء احتفالية واضحة، متعهدًا "بالعمل منذ اليوم الأول على إنقاذ الاقتصاد ومنع أي انقلاب عسكري مجددًا".
يرى مراقبون أن هذه النتيجة تعني الكثير لكوريا الجنوبية، خاصة أنها أعادت للحياة السياسية رمزية الاستقرار، في وقت يرزح فيه الاقتصاد تحت ضغوط الرسوم الجمركية الأمريكية، والركود العالمي، وغياب القيادة الثابتة.
جراح المصانع
ولد لي في أسرة فقيرة، وعمل في المصانع وهو طفل، حيث أصيب بتشوه دائم في ذراعه جراء حادث صناعي، عاش حياةً قاسية، لدرجة أنه حاول الانتحار مرتين، قبل أن يحصل على منحة جامعية، ويصبح لاحقًا محاميًا لحقوق الإنسان، وفق "أسوشيتدبرس".
كتب لي في مذكراته عام 2017: "دور المِحن لا يكمن في إجبار الناس على الاستسلام، بل في اختبار مدى جدية آمالهم ويأسهم".
ودخل لي عالم السياسة من بوابة بلدية سيونغنام، ثم حاكمًا لمقاطعة جيونجي، لكنه لمع بقوة عام 2016 عندما قاد احتجاجات ضد الرئيسة السابقة بارك كون هيه، في تلك الفترة، وصف لي خصومه المحافظين بأنهم "مزيفون جشعون"، وهاجم نظام الدفاع الصاروخي الأمريكي في البلاد، ما جعله صوتًا مثيرًا للجدل ومحبوبًا في آن.
خلال محنة الأحكام العرفية، أصبح لي رمزًا للمقاومة، عندما قفز فوق سور البرلمان وتجاوز الجنود للمشاركة في التصويت الطارئ لرفع الأحكام. بثّ الحدث مباشرةً، وشاهده عشرات الملايين، مما رسّخ صورته كقائدٍ لا يخشى الاصطدام.
محاولة اغتيال
في يناير 2024، نجا لي من محاولة اغتيال عندما طعنه رجل في رقبته خلال فعالية ببوسان، ورغم حاجته لجراحة عاجلة، عاد سريعًا لحملته الانتخابية، محاطًا بزجاج واقٍ وسترة مضادة للرصاص، ليخوض معركة رئاسية اتسمت بالخطاب التصعيدي والتحديات الأمنية.
وركزت حملة لي على إصلاحات سياسية واقتصادية، أبرزها: فرض قيود صارمة على صلاحية الرئيس بإعلان الأحكام العرفية، وتعديل دستوري للسماح بفترتين رئاسيتين (4 سنوات لكل منهما)، ودعم الشركات الصغيرة وتطوير صناعة الذكاء الاصطناعي، وتخفيف التوترات مع كوريا الشمالية، مع إبقاء نزع السلاح النووي كهدف استراتيجي.
كما شدد مساعدوه على أن حقوق الإنسان ستكون محور التعامل مع بيونج يانج، خصوصًا فيما يخص أسرى الحرب الكوريين الذين لم يُعادوا منذ حرب 1950-1953.
ملفات مشتعلة
رغم نبرته التصالحية الأخيرة، فإن لي متهم بتبني شعبوية مفرطة، لا سيما اقتراحه المثير للجدل بمنح دخل أساسي لكل المواطنين. وفيما يخص السياسة الخارجية، وعد بمواصلة الشراكة مع واشنطن وطوكيو، إلا أن تاريخه الحاد تجاه التحالفات العسكرية الأمريكية يثير شكوك البعض.
وحسب "سي إن إن" يواجه لي تحديات مباشرة تشمل: الحرب التجارية مع الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترامب، وسياسات "أمريكا أولًا" وتأثيرها على الاقتصاد الكوري القائم على التصدير، والبرنامج النووي الكوري الشمالي.
يرى الأستاذ بايك ووييل من جامعة يونسي أن كوريا الجنوبية لن تتمكن من تغيير قواعد اللعبة كثيرًا، قائلًا: "بغض النظر عمن يحكم البلاد، فإن التعامل مع إدارة ترامب لن يختلف كثيرًا".
مخاوف من القمع
لي لا يأتي إلى الحكم خالي الوفاض من المشكلات، إذ يواجه خمس محاكمات تتعلق بتهم فساد وفضائح عقارية، كادت إحداها تعصف بترشحه، ورغم الاحتفاء الشعبي به، يرى منتقدوه أنه قد يستخدم السلطة لتصفية خصومه السياسيين، مما يهدد بتكريس الانقسام الداخلي.
ويقول المحلل شين يول من جامعة ميونغ جي: "لا نعرف بعد ما إذا كان خطابه الناري سابقًا تكتيكًا انتخابيًا أم تجسيدًا لشخصيته الحقيقية"، وفق "سي إن إن".