لم يكن الأمر يحتاج إلى أكثر من نقرة واحدة على لوحة مفاتيح في مكتب ناطق عسكري إسرائيلي؛ كي تُمحى "الفخاري" من خرائط الحياة، وتتحول إلى رقم مجرّد وهو "المنطقة 76"، هكذا، وبكل بساطة لا تعرف الرحمة، جُرّدت بلدة فلسطينية نابضة من اسمها، وذكرياتها، وأصوات أطفالها وضحكاتهم، وأشجار زيتونها التي تنتظر موسمًا لم يأتِ، ومن أحلام الآباء الذين لطالما راودهم الأمل رغم الدمار.
من داخل ظلّ اليأس القاتم الذي أسقطه العدوان الإسرائيلي على جنوب قطاع غزة، تخرج شهادة حيّة من أحد أبناء الفخاري، وهي المعلمة الفلسطينية رويدا عامر، التي نقلت بعض تفاصيل أيام الرعب التي عاشها سكان البلدة، حين تحولت مدن وقرى إلى أهداف، في معركة يُقال إنها ضد "الإرهاب"، بينما هي في حقيقتها حرب شاملة على الوجود الفلسطيني. إذ رصدت مجلة "+972" العبرية، المعروفة بمعارضتها لحكومة الاحتلال، فصولًا من هذه المأساة التي تعيشها آلاف العائلات الفلسطينية.
التحوّل إلى رقم
في "الفخاري"، جنوب قطاع غزة، عرف السكان أن لحظة الاجتياح قادمة منذ أبريل، حين بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي عمليات تسوية منظمة للأراضي الواقعة بين خان يونس ورفح، استعدادًا لإنشاء ما وُصف بـ"محور موراج". لكن في 19 مايو، تحوّل التهديد إلى واقع، إذ جُرّدت الفخاري من اسمها، وأصبحت مجرد "منطقة 76" على الخرائط العسكرية الإسرائيلية.
لم يكن تغيير الاسم مجرد إجراء بيروقراطي، بل كان تجريدًا متعمّدًا من الإنسانية، بلدة يبلغ عدد سكانها 7000 نسمة، يعيشون على الزراعة، يتحدثون عن ذكرياتهم في الحقول، وعن الأعراس التي كانت تُقام في ساحات البيوت، كل ذلك تحوّل إلى رقم في شبكة قتالية، ووجهة مبرمجة للقصف.
هذه ليست المرة الأولى التي يتلقى فيها سكان الفخاري أوامر بالإخلاء منذ اندلاع الحرب، للمرة الثانية، طُلب من العائلات مغادرة منازلها والتوجه غربًا نحو ما يُسمى "المنطقة الآمنة"، رغم أن تلك المنطقة لم تكن آمنة يومًا؛ إذ سقط فيها، قبل أيام فقط، 25 شهيدًا من المدنيين، استهدفتهم القذائف الإسرائيلية وهم داخل خيامهم.
بنسبة لا تقل عن 80%، فرّ سكان الفخاري وخان يونس وبني سهيلا وعبسان إلى أماكن النزوح، تاركين خلفهم منازل قد لا يعودون إليها أبدًا.
مدرسة على الرمال
رغم كل شيء، حاولت بعض العائلات، ومنها عائلة كاتب التقرير، البقاء في الفخاري، لكن غارة جوية استهدفت مدرسة قريبة كانت كفيلة بدفعهم إلى النزوح نحو غرب خان يونس، إلى منزل العمة في المخيم.
"عامر"، التي كانت قبل الحرب تعمل مدرسة للعلوم، وجدت نفسها الآن تعمل بشكل أساسي في التوثيق الصحفي وتعليم الأطفال في تجمع خيام يُستخدم كمدرسة مؤقتة، بدعم من منظمة "تحالف إعادة البناء" الأمريكية.
في تلك الفصول الرملية، تقابل أطفالًا جاءوا جائعين وعطشى، بعضهم فقد والديه أو أشقاءه. لا يبدأ يومهم بحل المسائل الرياضية، بل بالبحث عن الماء والطعام. قالت لها أحد التلاميذ: "لا أفهم العلوم لأنني جائع"، وقال آخر: "أنا هنا فقط لأتنفس".
في يوم الثلاثاء 13 مايو، كان من المفترض أن تُنقل والدة "عامر" إلى المستشفى الأوروبي لإجراء عملية في العمود الفقري، وفي مساء ذلك اليوم، وبينما كانت العائلة تستعد لليوم التالي، بدأت سلسلة انفجارات مدوية هزّت الحي.
تحوّلت الليلة إلى جحيم، فصرخات تتعالى من الغرف، وخوف من أن المنزل سينهار في أي لحظة. أربع قنابل خارقة للتحصينات سقطت قرب الفخاري، إحداها في فناء المستشفى الأوروبي الذي يبعد 300 متر فقط عن منزلهم، فاستُشهد 28 شخصًا، ودُفن عشرون آخرون تحت أنقاض منزل عائلة الأفغاني.
المستشفى تحت الحصار
صباح اليوم التالي، توجهت العائلة إلى المستشفى الأوروبي، لكنهم فوجئوا بالدمار الهائل في المكان. ممرات مليئة بالمرضى، وطاقم طبي يحاول العمل وسط الأنقاض، وبنية تحتية طبية لم تعد تصلح للاستشفاء.
أُلغيت العملية، لكن العائلة لم تغادر فورًا خوفًا من القصف. بعد مغادرتهم بوقت قصير، وعندما كانوا يمرّون بجرافة فلسطينية تزيل أنقاض الليلة الماضية، طلبت الابنة من أمها وأخيها تغيير الطريق بدافع القلق المفاجئ. بعد دقائق، سمعوا انفجارين في الموقع الذي كانوا فيه، استُهدفت الجرافة من جديد، والقصف لم ينتهِ.
منذ ذلك اليوم، تعيش العائلة في خوف دائم، لا مكان آمن، حتى السوبرماركت القريب قُصف. ومع بدء عملية "عربات جدعون" التي أعلنت عنها إسرائيل، تزداد المخاوف، خاصة أن المناطق الغربية التي نُقلوا إليها تُستهدف أيضًا.
تصف "عامر" هذه الأيام بأنها الأسوأ منذ بدء الحرب، إذ أصبحت الحياة اليومية سلسلة من القرارات بين الموت تحت القصف أو الهروب نحو المجهول. وبين هذا وذاك، تستمر الحياة على خيطٍ رفيع من الأمل والمقاومة.
الفخاري ليست رقمًا
ما حدث للفخاري ليس استثناءً، بل هو نموذج لما يجري في عشرات القرى والبلدات الفلسطينية. حين يُمحى الاسم، يُمحى التاريخ، وتُصادر الحقوق، ويصبح السكان مجرد أهداف افتراضية ضمن أهداف عسكرية.
لكن خلف هذا الرقم "76"، هناك بشر وأطفال يبحثون عن العلم رغم الجوع، وأمهات ينتظرن العلاج، ومُعلّم يصر على أن مقاومة الموت تبدأ بحصة دراسية في خيمة، تحت شمس خانقة، ليؤكد أن الفخاري قصة إنسانية تختصر مأساة شعب كامل يعيش في عين الإعصار، لكنه ما زال يتمسك بالحياة.