يعاني آلاف الأطفال في قطاع غزة من سوء التغذية بسبب الحصار الإسرائيلي، الذي يغتال الإنسانية والبراءة، في ظل افتقار القطاع المساعدات الحيوية جراء الحرب الوحشية التي تشنها تل أبيب على غزة.
ولم يفلت كبير أو صغير من حصار جيش الاحتلال، حتى الرضّع في غزة، يطارد الاحتلال ألبانهم، وموادهم الغذائية وأدويتهم، بل ويتعقب صرخاتهم وأنَات جوعهم، تاركًا آباءهم يبحثون بين الركام والأنقاض على ما يبقيهم أحياء، في وقت يعاقب الاحتلال الصغار على ما لم يستطيعوا أن يصرخوا به، حتى أصبحوا "جلد على عظم".
وأصبحت الرضاعة الطبيعية ترفًا للأمهات الجدد، اللواتي تضررن بشدة من أزمة الغذاء المتفاقمة، ووجدت دراسة حديثة أجرتها منظمة "مجموعة التغذية" أن ما بين 10 و20% من النساء الحوامل والمرضعات اللواتي شملهن الاستطلاع، أي ما مجموعه 4500 امرأة، يعانين سوء التغذية.
رقية.. موت في أي لحظة
تحاول راندا الدهار، إنقاذ صغيرتها رقية، بعد أن فقدت ابنها الأول، باحثة عن الحليب بين أنحاء القطاع، خاصة بعدما أخبرها الطبيب أنه ابنتها قد تموت في أي لحظة، إذ لم تكن قادرة على الحركة خلال الأسابيع الاثني عشر الأولى، بسبب سوء التغذية بحسب مجلة "دير شبيجل" الألمانية.
لا تعرف والدة رقية على وجه التحديد ما الذي تعاني منه ابنتها، لم يعد هناك أي إمكانيات في قطاع غزة لإجراء فحوصات شاملة للأطفال، بعد أن اضطرت العديد من المستشفيات إلى الإغلاق بسبب تعرضها للقصف أو وقوعها في مناطق القتال؛ أما البقية فلا يستطيعون في كثير من الأحيان سوى تقديم الرعاية الأساسية.
سوء التغذية الحاد
وتقول سوزان معروف، أخصائية سوء التغذية، التي تعالج رقية أيضًا، إن 200 طفل يأتون إلى العيادة يوميًا، ويعاني واحد من كل خمسة من هؤلاء الأطفال من سوء التغذية، ويعاني واحد من كل عشرة من سوء التغذية الحاد.
وبحسب اليونيسف، تم علاج ما مجموعه 9 آلاف طفل من سوء التغذية الحاد منذ بداية العام الجاري، قد يعاني نحو 71 ألف طفل وطفلة تحت سن الخامسة من سوء التغذية خلال الأشهر الأحد عشر المقبلة إذا استمر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة؛ وبشكل عام، يواجه واحد من كل خمسة من السكان خطر المجاعة الحادة في الأشهر المقبلة. وجاء ذلك نتيجة لتحليل أجرته مبادرة التصنيف الدولي لمكونات الأمن الغذائي المعترف بها دوليًا والمدعومة من الأمم المتحدة، التي تراقب حالة الإمدادات الغذائية للسكان في جميع أنحاء العالم.
طهي العشب للرضع
وأفاد الممرضون والأطباء من مستشفيات ومرافق أخرى في قطاع غزة بزيادة في مثل هذه الحالات، ويتحدثون عن الأمهات اليائسات اللواتي يطبخن العشب لإشباع جوعهن، إلى جانب الأطفال الذين يتجولون بين الأنقاض، على أمل العثور على شيء يأكلونه.
وتقدر منظمة "أطباء بلا حدود" أن الإمدادات الطبية، بما في ذلك تلك الخاصة بعلاج سوء التغذية، سوف تكفي لمدة أسبوعين آخرين، في حين تقدر منظمة إنقاذ الطفولة أن الإمدادات سوف تكفي لمدة ستة أسابيع.
وأمام الانتقادات الدولية خفّفت إسرائيل الحصار على غزة المفروض منذ مارس الماضي، وسمحت بدخول كميات صغيرة من المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ولكنها أقل كثيرًا من أن تكفي لتخفيف الجوع بشكل مستدام.
صعوبة التئام الجروح
بدوره يقول رينالد مينارد، عامل الصحة في منظمة أطباء بلا حدود، الذي يعمل في مركز رعاية صحية أولية في منطقة المواصي قرب خان يونس: "يُحدّ سوء التغذية من القدرات الإدراكية والجسدية، ويُشكّل خطرًا بالغًا على الأطفال دون سن الخامسة، فهم ينمون بشكل أقل، وتلتئم إصاباتهم ببطء أكبر، ويُصابون بالمرض بسرعة أكبر، ما قد يؤدي إلى الوفاة في ظل الظروف الصحية والطبية الكارثية في قطاع غزة".
وفي كثير من الأحيان لا تتمكن أسره الرضّع من الوصول إلى العيادة لأن السيارات أو العربات التي تجرها الحمير نادرًا ما تكون متاحة، وإذا كانت متوفرة، فإن الرحلة تكون باهظة الثمن، غالبًا ما يكون من الخطير للغاية مغادرة الملاجئ أو المنازل الطارئة بسبب القصف العنيف والهجوم البري الجديد.
وبحسب منظمة الصحة العالمية، توفي 57 طفلًا بسبب سوء التغذية منذ أن فرضت إسرائيل الحصار الشامل على قطاع غزة في الثاني من مارس الماضي.
يحيى الرضيع.. نزوح 20 مرة
وإلى جانب رقية، تجسدت مأساة الرضّع في غزة في "يحيى" الذي ولد في مارس 2023، عندما بلغ من العمر 5 أشهر، لاحظت أمه أن هناك شيئًا خاطئًا، حسبما قالت.
تم تشخيص حالة "يحيى" بعدم تحمل البروتين، ووصف الطبيب حليبًا خاصًا كان لا بد من استيراده، اشترت العائلة الحليب، وكبر يحيى واكتسب وزنًا، ثم بدأت الحرب، وتقول الأم إن العائلة فرت من الشجاعية التي تقع مباشرة على الحدود مع إسرائيل، ومنذ ذلك الحين اضطرت إلى تغيير مكان إقامتها ما مجموعه 20 مرة.
تعيش عائلة يحيى حاليًا في خيمة في ملعب سابق في مدينة غزة، وقد تم تدمير منطقتهم بالكامل تقريبًا في الأشهر الأولى من الحرب، منذ بداية الحرب، أصبح الحصول على الحليب بالنسبة ليحيى أكثر صعوبة. بل سرعان ما أصبح غير متاح، وكلما ساءت حالته كانوا ينقلونه إلى مستشفى الرنتيسي للأطفال في مدينة غزة، كما تقول والدته، لكن في نوفمبر 2023، دمّر الجيش الإسرائيلي أجزاءً منه.
وأضافت: "لقد أجبرت على إعطاء يحيى طعامًا لم يكن يتحمله في الواقع، ونتيجة لذلك، تدهورت حالته الصحية بشكل كبير، وحاول الأطباء تنظيم إجلائه إلى الخارج، لكن محاولتهم باءت بالفشل، وفي 19 مارس الماضي من هذا العام، تم قصف المنزل الذي لجأوا إليه، وأصيب يحيى بعدة كسور في العظام وتم نقله إلى المستشفى، وهنا لم يعد بإمكانه أن يأكل أي شيء، وانخفض وزنه وتدهورت حالته الصحية بسرعة، وتوفي بعد شهر واحد بالضبط من القصف".
شام.. "ثقب في القلب"
يخرج زوج شيماء فتوح كل صباح، باحثًا عن الطعام بين أنقاض غزة، قبل أن يعود في معظم الأيام "خالي الوفاض" والدموع تملأ عينيه، تدفعه إلى أن يغلي الماء ويضيف قليلًا من الملح ليُحضّر حساءً دافئًا، ليشعر الأطفال وكأنهم أكلوا شيئًا، لكن هذا لا يُغني عن وجبة حقيقية، بحسب وصف صحيفة "ذا تايمز" البريطانية.
في نهاية يناير الماضي، ولدت طفلة فتوح الثالثة بعملية قيصرية، إذ فُصلت من رحم أمها دون تخدير، لعدم توفره أواخر الشتاء بغزة، وتعاني "شام" ثقبًا في قلبها، لكنها لم تتمكن من إجراء الجراحة اللازمة لإنقاذ حياتها، في الوقت الحالي، يمنع الحصار دخول المعدات الطبية ولقاحات الأطفال إلى غزة، ما يترك المواليد الجدد والأطفال الصغار دون علاج روتيني.
حاولت والدة شام إطعامها بالحليب الصناعي، لكنها لا تستطيع تحمّل تكلفته، قائلة: "أحاول إرضاعها طبيعيًا، لكنني لا أملك القوة أو التغذية الكافية لإنتاج ما يكفي من الحليب، كأم مرضعة، أحتاج إلى أشياء مثل الحليب والبيض والسكر، لكن سعر كيلو السكر الآن 100 شيكل، وفي معظم الأحيان لا نجد هذه المواد في السوق".
بعد أربعة أشهر، لا تتمنى والدة "شام" سوى بقاء عائلتها على قيد الحياة، بعد أن فرضت إسرائيل حصارًا شاملًا على قطاع غزة بأكمله، ما أدى إلى نفاد المؤن المحدودة أصلًا التي وصلت خلال الهدنة، في هذه الظروف، لا تكتفي الأم بإطعام أطفالها، بل تقرر مَن يأكل ومَن ينام جائعًا، وتقسّم الطعام وتضع نفسها في آخر القائمة.
وقالت والدة شام: "منذ حصار الغذاء لأكثر من ثلاثة أشهر، تغير كل شيء، اختفى الطعام، وانقطع الماء، وأصبح الوصول إلى كل شيء صعبًا، وشام طفلتي الصغيرة، هي الأكثر معاناة"، في غرفة صغيرة تتقاسمها شيماء مع زوجها العامل وأطفالها الثلاثة (شام واثنان يبلغان من العمر خمس وست سنوات) تبكي شام طوال اليوم، ليس فقط من الجوع، لكن من الألم.
توسيع هجوم جيش الاحتلال
بدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي عملية واسعة النطاق أُطلق عليها اسم "عربات جدعون"، بهدف نقل سكان غزة جنوبًا استعدادًا لتوسيع نطاق العملية البرية، وقبل بدء العملية، أيدت الولايات المتحدة خطةً تقودها إسرائيل لتوزيع المساعدات على سكان غزة عبر شركات أجنبية، موزعة على نقاط توزيع مختلفة في المناطق المدنية بالقطاع، سيتم إنشاؤها خلال الأسابيع المقبلة.
وتسعى إسرائيل لتجنب تحمل المسؤولية المباشرة عن توزيع الإمدادات، ما قد يضع جنودها وجهًا لوجه مع المدنيين، إلا أن الخطة الإسرائيلية لتوزيع المساعدات واجهت انتقادات بعد أن وصفتها وكالات الأمم المتحدة بأنها ستُستخدم كسلاح.