تشهد الأسواق المالية الأمريكية تطورات مقلقة مع ارتفاع تكلفة تمويل الدين الوطني بشكل حاد، بينما يناقش الكونجرس مشروع قانون ضريبي قد يضيف تريليونات الدولارات إلى العجز الفيدرالي.
ووفقًا لمجلة "بوليتيكو"، فإن هذا الارتفاع في التكاليف ليس مجرد صدفة، بل يمثل تحذيرًا مباشرًا من أسواق السندات للحكومة الأمريكية بشأن المسار الخطير للدين الوطني.
تحول جذري في نظرة المستثمرين
يواجه المستثمرون في أسواق السندات الأمريكية تحولًا تاريخيًا في تعاملهم مع الديون الحكومية، وقال جون فيليس، إستراتيجي الاقتصاد الكلي الأمريكي في بنك BNY المسؤول عن حفظ 53 تريليون دولار من الأصول، لمجلة "بوليتيكو":"للمرة الأولى في حياتي المهنية، نشهد تحولًا.. ينظر المستثمرون بريبة إلى ديون الخزانة الأمريكية".
جاء هذا التحول بعد قيام وكالة موديز للتصنيف الائتماني بخفض تصنيف الولايات المتحدة كمقترض، وهو قرار حذرت منه الوكالة منذ عام 2023.
وبحسب فيليس، في حديثه لـ"بوليتيكو"، فإن هذا التخفيض لم يقدم معلومات جديدة للمستثمرين، لكنه "ركز الأذهان" على حجم المشكلة الحقيقي، كما أن المستثمرين يدرسون الآن تفاصيل حجم الديون الجديدة التي ستصدرها الولايات المتحدة، إضافة إلى الحجم الكبير من الديون المتوقع صدورها من حكومات أخرى حول العالم، ويطالبون بعائدات أكثر جاذبية لإقراض الخزانة الأمريكية.
ارتفاع تكلفة الاقتراض وتأثيراتها الاقتصادية
أدى هذا التحول في مزاج المستثمرين إلى ارتفاع كبير في تكلفة الاقتراض الحكومي، وأغلقت عائدات السندات الحكومية لأجل 20 و30 عامًا يومي الأربعاء والخميس فوق 5%، ما يعني أن نسبة أكبر من الأموال الضريبية ستُستهلك في مدفوعات الفوائد على الدين الفيدرالي بدلاً من الاستثمار في مشاريع أكثر إنتاجية.
يحذر جوش فروست، الذي أشرف على إدارة الديون في عهد الرئيس جو بايدن كمساعد وزير الخزانة للأسواق المالية، من وضع يصفه بـ"التوازن غير المستقر".
وأوضح فروست، في حديثه لـ"بوليتيكو"، أن "الأسواق تعرضت للحرق عمومًا من انقلابات السياسات، ومن الصعب للغاية أن تبيع من موقف لتشتريه مرة أخرى بعد يوم واحد"، ما يخلق معادلة معقدة في نظرية اللعب قد تؤدي إلى كبح ردود الفعل السلبية في السوق حتى يحدث انهيار مرعب.
ردود الفعل السياسية والتحديات التشريعية
أكد رئيس لجنة الميزانية في مجلس النواب، جودي أرينجتون، الجمهوري من ولاية تكساس، لمجلة "بوليتيكو"، قبل ارتفاع العائدات هذا الأسبوع أن سوق السندات ستكون الحكم النهائي لما هو مقبول في حزمة الضرائب والإنفاق، محذرًا: "إذا لم تعتقد أسواق السندات أننا جديون، فلست متأكدًا من أن ما نفعله سيهم، لأنها ستملي الشروط".
على جانب آخر، يقود السيناتور رون جونسون، جمهوري من ولاية ويسكونسن، حملة للحصول على تخفيضات حادة في الإنفاق لإعادة الولايات المتحدة إلى مستويات ما قبل الجائحة.
وأخبر جونسون "بوليتيكو" أن الاستجابة الأولية لمقترحاته كانت رافضة، لكنه يؤكد الآن وجود أصوات كافية لمنع مشروع القانون في غياب المزيد من تخفيضات الإنفاق.
ومع ذلك، يشير التقرير إلى أن الكونجرس عادة ما يختار تقليل الضرائب وزيادة الإنفاق عند الشك.
جذور المشكلة والحلول المقترحة
يحدد الخبراء الاقتصاديون المشكلة الأساسية في نمو الدين بوتيرة أسرع من نمو الاقتصاد، مدفوعة ببرامج الإنفاق الإلزامي مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية.
للمقارنة، بلغ إجمالي الإنفاق التقديري، أي الأمور التي يتقاتل حولها الكونجرس في قوانين التمويل -1.8 تريليون دولار في السنة المالية 2024، وهو نفس حجم العجز تماماً.
وزير الخزانة سكوت بيسنت عبر عن رغبته في رؤية نسبة العجز إلى الناتج المحلي الإجمالي عند 3%، انخفاضًا من معدلها الحالي الذي يزيد على 6%، والذي يعتبر مرتفعًا جدًا وفقًا للمعايير العالمية.
وأشارت "بوليتيكو" إلى أن الحكومة الأمريكية لا تحتاج إلى توازن الميزانية لطمأنة الأسواق، نظرًا لأن الدولار الأمريكي يُستخدم كعملة احتياط عالمية.
تحذيرات الخبراء من المستقبل
بيتر أورزاج، الرئيس التنفيذي لشركة لازارد، الذي قاد سابقًا مكتب الميزانية في الكونجرس ومكتب الإدارة والميزانية، عبر عن مخاوفه في مؤتمر معهد ميلكن العالمي.
يقول "أورزاج" إنه كان يميل سابقًا إلى تجاهل "كل التحذيرات المالية المفزعة، لأن كل التنبؤات المرعبة لم تحدث"، لكنه يحذر الآن قائلًا: "إذا قارنت أين نحن الآن بأين كنا قبل عقد، فالوضع مختلف كثيرًا.. العجز أعلى بمرتين.. أسعار الفائدة أعلى بشكل كبير، وأعتقد أن الوقت حان للقلق مرة أخرى بشأن هذا المسار".