في واحدة من أكثر القضايا غرابة وإثارة في تاريخ الأمن القومي البريطاني، أسدل القضاء في لندن الستار على فصل مثير من فصول عالم التجسس الخفي، بعد أن كُشف الستار عن شبكة تجسس روسية اخترقت النسيج الأوروبي تحت ستار الحب والخداع والتكنولوجيا.
فما بين كاميرات خفية مخبأة في ربطة عنق، وأجهزة تجسس داخل زجاجات الكولا، وأسماء حركية مستوحاة من أفلام الكرتون، وقف ستة بلغاريين في قفص الاتهام بتهم لا تبدو للوهلة الأولى سوى حبكة روائية، لكن الحقيقة كانت أكثر صدمة، فهي عملية روسية معقدة تهدد الأمن القومي البريطاني، وتفضح تورط عملاء في "فخاخ عسل" ومؤامرات اختطاف، يقودها رجل أطلق عليه لقب "جاكي شان" من غرفة ضيافة متداعية على شاطئ إنجليزي باهت.
هذه القضية التي تابعتها صحيفة "سي بي إس نيوز" الأمريكية بالتعاون مع وكالة فرانس برس، تفتح بابًا جديدًا لفهم مدى تعقيد وتطور الحرب الاستخباراتية بين روسيا والغرب.
أكبر قضايا التجسس الحديثة
أصدرت محكمة أولد بيلي الجنائية في العاصمة البريطانية لندن، أمس الاثنين، أحكامًا بالسجن تصل إلى عشر سنوات على ستة مواطنين بلغاريين، بعد إدانتهم بالانتماء إلى خلية تجسس روسية، حسب صحيفة "سي بي إس نيوز" الأمريكية.
القضية، التي وصفتها السلطات البريطانية بأنها أقرب إلى "رواية تجسس"، كشفت عن شبكة مترامية الأطراف تتبع للاستخبارات الروسية، عملت على جمع معلومات حساسة وتنفيذ عمليات مراقبة معقدة في المملكة المتحدة ودول أوروبية أخرى.
وترأس الخلية أورلين روسيف، البالغ من العمر 47 عامًا، الذي قاد عمليات التجسس من منزل ضيافة سابق ومتهالك في بلدة "جريت يارموث" الساحلية بشرق إنجلترا، حيث عثرت الشرطة على "كنز ثمين" من أدوات التجسس، شمل مئات الأجهزة الإلكترونية، بعضها مخبأ في أماكن لا تخطر على بال، كصخور صناعية وربطات عنق وزجاجات مشروبات وحتى دمى أطفال.
خلية معقدة
خلال جلسة النطق بالحكم، قال القاضي نيكولاس هيليارد إن خطر عمليات التجسس التي نفذتها الخلية على الأمن القومي البريطاني كان واضحًا، واصفًا إياها بأنها من "أكبر العمليات المعادية وأكثرها تعقيدًا" التي تم اكتشافها على الأراضي البريطانية.
وأوضح القاضي أن المتهمين كانوا مدفوعين بدوافع مالية، إذ تم الحديث في محادثات بينهم عن مبالغ تصل إلى مليون يورو (1.1 مليون دولار)، بحسب ما نقلته هيئة الإذاعة البريطانية BBC، واعتبر أن المبالغ المدفوعة لهم تعكس مدى الأهمية التي توليها روسيا لأنشطتهم.
مخطط متعدد الجنسيات
استمعت المحكمة إلى أن عمليات الخلية لم تقتصر على الأراضي البريطانية فحسب، بل امتدت إلى النمسا وألمانيا وإسبانيا والجبل الأسود، وهو ما يشير إلى مدى اتساع نفوذ الشبكة وطبيعتها العابرة للحدود.
ومن خلال فحص آلاف الرسائل على تطبيق "تليجرام"، التي تم العثور عليها في هاتف روسيف، تمكنت الشرطة البريطانية من تحديد ست عمليات تجسس تعود إلى ما قبل أغسطس 2020، واستنادًا إلى هذه الرسائل، تم التعرف على أدوار مختلف أعضاء الخلية.
في هذه المحادثات، أطلق روسيف على نفسه لقب "جاكي شان"، بينما أشار إلى نائبه بيسر دجامبازوف بلقب "ماد ماكس"، وأطلق على باقي العملاء اسم "المينيونز"، نسبة إلى شخصيات فيلم الرسوم المتحركة "أنا الحقير".
فخاخ العسل
إحدى الرسائل التي كشفت عنها المحكمة تضمنت نقاشًا حول خطة لاختطاف أحد الأهداف، حيث قال روسيف: "إذا كنتم جادين في الأمر، فإنني أملك الموارد اللازمة لاختطافه وتخديره واحتجازه في كهف آمن".
وذكرت الشرطة أن الخلية اعتمدت تكتيكات "فخ العسل" للإيقاع ببعض الأهداف، حيث استُخدمت فانيا جابيروفا، صاحبة صالون تجميل تبلغ من العمر 30 عامًا، في محاولة للإيقاع بصحفي بارز، كما تضمنت خطط الشبكة هجومًا بطائرة مسيّرة لإسقاط دماء خنازير على سفارة كازاخستان في لندن.
ومن بين خططهم الأخرى، محاولة جمع بيانات الهواتف المحمولة لجنود أوكرانيين يُعتقد أنهم كانوا يتدربون في قاعدة أمريكية بألمانيا.
أحكام متفاوتة
أقرّ كل من أورلين روسيف، وبيسر دجامبازوف (44 عامًا)، وإيفان ستويانوف (33 عامًا) بالذنب، حيث حُكم عليهم بالسجن عشر سنوات وثمانية أشهر، وعشر سنوات وشهرين، وخمس سنوات على التوالي.
أما الثلاثة الآخرين، فقد أُدينوا بالتجسس بعد محاكمتهم في مارس 2025، وهم تيهومير إيفانشيف (39 عامًا)، سباح سابق في المياه المفتوحة، وكاترين إيفانوفا (33 عامًا)، مساعدة مختبر، وفانيا جابيروفا (30 عامًا)، صاحبة صالون التجميل، حيث حُكم عليهم بالسجن ثماني سنوات، وتسع سنوات وثمانية أشهر، وست سنوات وثمانية أشهر على التوالي.
خلال المحاكمة، أبلغ محامي الدفاع عن جابيروفا، أنتوني ميتزر، المحكمة بأن موكلته كانت تحت سيطرة دجامبازوف، الذي كانت تربطها به علاقة عاطفية، وكان على علاقة أيضًا بإيفانوفا. كما قيل للمحكمة إن جابيروفا كانت تعاني من اضطرابات نفسية، شملت الاكتئاب، واضطراب الهلع، ورهاب الأماكن المغلقة.
وفي واحدة من أكثر اللحظات إثارة، داهمت الشرطة منزل دجامبازوف في فبراير 2023، لتجده عاريًا في السرير برفقة جابيروفا، ما أعطى القضية أبعادًا درامية تشبه ما يحدث في أفلام التجسس.
وادعت جابيروفا أثناء شهادتها بأنها كانت ضحية خداع دجامبازوف، الذي أخبرها بأنه ضابط في الإنتربول ويعاني ورمًا في الدماغ.
العقل المدبر
كشفت التحقيقات أن الخلية كانت تعمل تحت إشراف رجل الأعمال النمساوي الهارب يان مارساليك، المطلوب من قِبل الإنتربول بعد انهيار شركة الدفع الألمانية "وايركارد"، وقد عمل مارساليك كحلقة وصل بين المخابرات الروسية وروسيف، بحسب السلطات البريطانية.
ووصف دومينيك مورفي، رئيس قيادة مكافحة الإرهاب في شرطة العاصمة لندن، الشبكة بأنها "عملية جمع معلومات استخباراتية متطورة للغاية"، مؤكداً أن أنشطتها كانت تهديدًا حقيقيًا للأفراد المستهدفين وللأمن القومي البريطاني، باستخدام تكتيكات تشبه حبكات روايات التجسس.
كشف جرائم نوفيتشوك
كان الصحفي الاستقصائي كريستو جروزيف، من موقع "بيلينجكات"، من بين المستهدفين من قبل الشبكة، بعد أن كشف سابقًا عن الروابط الروسية في هجوم غاز الأعصاب "نوفيتشوك" في مدينة سالزبوري البريطانية عام 2018، وكذلك إسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية في يوليو 2014.
وفي بيان له، وصف جروزيف شعوره بالصدمة والذعر بعد اكتشاف أن المخابرات البلغارية كانت تتعقبه وتعترض اتصالاته الشخصية والعائلية. وقال إن ما حدث كان "مرعبًا ومزعزعًا للاستقرار بشكل عميق".
قضية شبكة التجسس الروسية التي فجرتها الشرطة البريطانية ليست مجرد فصل جديد في كتاب الصراع الاستخباراتي بين روسيا والغرب، بل هي تذكير صادم بمدى تعقيد وجرأة العمليات الاستخباراتية الحديثة، خاصة في عالم أصبحت فيه التكنولوجيا والعلاقات الشخصية أدوات فعّالة بيد أجهزة الظل.
في هذه القضية، اجتمعت الخديعة، والمال، والتقنيات الخفية، وحتى العاطفة، في حبكة واقعية مذهلة، ستظل علامة فارقة في تاريخ أمن المملكة المتحدة، وجرس إنذار لبقية الدول الغربية.