تنعكس الاضطرابات الاقتصادية التي يُعاني منها الاقتصاد العالمي على منطقة اليورو بشكلٍ كبيرٍ، خاصةً أنها لا تزال تُعاني من بعض الأزمات الداخلية، التي تتسبب في انخفاض درجة مرونتها تجاه الصدمات الخارجية، وهو الأمر الذي يُلقي بظلاله على 20 دولة تستخدم اليورو كعملة أساسية، ومن هنا فاستقرار هذه المنطقة يعني استقرار عدد كبير من الدول في النظام الاقتصادي العالمي، مما يعني انتعاشه بشكل كبير.
وتأسيسًا على ما سبق، يتطرق هذا التحليل إلى التعرف على المؤشرات الاقتصادية لمنطقة اليورو، فضلًا عن توضيح النظرة المستقبلية لهذه المنطقة.
مؤشرات المنطقة
هناك العديد من المؤشرات التي توضح الوضع الحالي في منطقة اليورو، والتي سيتم توضيحها فيما يلي:
(-) معدل التضخم: استقرت الأسعار في منطقة اليورو بشكل جعلها تقترب من الهدف الأساسي للبنك المركزي الأوروبي، وهو الـ 2%، إذ كما يوضح الشكل (1) ارتفعت الأسعار بنسبة 2.2% في أبريل 2025 بالمقارنة بنسبة 2.4% في أبريل 2025، ولكن على الرغم من ذلك، تظل هذه المستويات أعلى من التوقعات المختلفة حول معدل التضخم، التي اتجهت نحو تحقيق 2.1%.
وعلى الجانب الآخر، ارتفعت أسعار الخدمات بشكل متسارع، فقد وصل المؤشر الرئيسي الذي يستبعد المكونات المتقلبة مثل الغذاء والطاقة إلى 2.7% في أبريل 2025، وهو أعلى بكثير من التوقعات، إذ ارتفع من 2.4% في مارس 2025، الأمر الذي يُسبب قلقًا داخل أروقة البنك المركزي الأوروبي، خاصة في ظل تحركاته نحو تخفيض الفائدة بمقدار 0.25 نقطة في اجتماعه المُقبل.
(-) معدل النمو الاقتصادي: انتعش النمو الاقتصادي في منطقة اليورو بشكل نسبي، فوفقًا للشكل (2) ارتفع النمو على أساس سنوي من 0% في الربع الثالث من عام 2023 إلى 1.2% في الربع الأول من عام 2025، إذ كانت المنطقة تُعاني من مناخ تمويلي صارم، وضعف في الثقة والقدرة التنافسية.
ولكن على الرغم من هذا الارتفاع في الربع الأول من عام 2025، لم تستطع المنطقة تحقيق معدلات النمو التي سُجلت في الربع الثاني من عام 2022، إذ حققت فيه نموًا بنسبة 4.1%، وهو الأمر الذي يرجع إلى تأثير الديون السيادية المرتفعة التي تُعاني منها المنطقة، فضلًا عن مشاكل قطاع التصنيع التي تُثقل كاهل النمو الاقتصادي، وتحديات المنافسة ما بين المنتجات الأوروبية وغيرها من المنتجات الصينية والأمريكية، التي تُضعف نسبيًا من صادراتها.
(-) مؤشر الإنتاج الصناعي: يُعاني قطاع التصنيع في منطقة اليورو من العديد من المشكلات، وهو ما يوضحه الشكل (3)، إذ سجل هذا القطاع معدلات نمو سالبة خلال الفترة من مارس 2024 إلى يناير 2025، ولكنه بدأ أن يتعافى في فبراير 2025، إذ بلغت معدلات النمو على أساس سنوي لهذا القطاع 1.2% بالمقارنة بنفس الشهر من العام السابق، وعلى الأساس الشهري ارتفع الإنتاج الصناعي بنسبة 1.1% بالمقارنة بالشهر السابق.
وعلى الرغم من هذا النمو، يتسم قطاع التصنيع في منطقة اليورو بقلة المرونة؛ بسبب ضعف الطلب الذي يواجه بارتفاع التكلفة، التي نتجت عن ارتفاع أسعار الطاقة في أعقاب الأزمة الروسية الأوكرانية، وتكاليف النقل في منطقة الشرق الأوسط، والقاعدة الصناعية التقليدية في أوروبا، مما يضغط على هوامش الأرباح للمصنعين، الأمر الذي ترتب عليه انخفاض كلًا من استثمارات وإنتاجية القطاع.
ومن هنا فقد كشفت الصدمات الخارجية عن نقاط ضعف هيكلية داخل قطاع التصنيع في دول منطقة اليورو، إذ انخفض الإنتاج بنسبة 1.7% بين ديسمبر 2023 وديسمبر 2024، وهو الأمر الذي كان بمثابة إنذار للاقتصاد؛ نظرًا لتأثير هذا الانخفاض على تباطؤ النمو الاقتصادي، وضعف طلب المستهلكين والشركات، وارتفاع مخاطر البطالة.
(-) نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي: تتميز هذه النسبة في منطقة اليورو بالارتفاع الكبير، إذ بلغت 87.4% في عام 2024، بالمقارنة بـ 83.6% في عام 2019، وهي نسبة من الدين تعمل على اقتطاع جزء كبير من إيرادات دول المنطقة، الأمر الذي يؤثر على معدلات نموها بشكل كبير، فأزمة الديون السيادية تُعد معضلة جوهرية في منطقة اليورو منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008.
نظرة مستقبلية
يُمكن التنبؤ باقتصاد منطقة اليورو من خلال النقاط التالية:
(-) تباطؤ النمو: في ظل الأزمات الداخلية التي تُعاني منها منطقة اليورو، تذهب العديد من التوقعات إلى أن اقتصاد المنطقة سيشهد حالة من التباطؤ، فقد أوضحت مجموعة "جولدمان ساكس" أنها تتوقع حاليًا نموًا مُحتملًا قدره 1%، ولكنه سيتباطأ إلى 0.8 في عام 2030.
ومن ناحية أخرى، أشارت شركة "RCP capital markets" إلى أن تخفيضات سعر الفائدة التي يسير وفقًا لها البنك المركزي الأوروبي، وزيادة الإنفاق المحلي، ستُعزز من النمو، ولكن من غير المرجح أن تُحدث زخمًا كبيرًا.
(-) الاتجاه الاستثماري: من المتوقع بشكل كبير اتجاه صانعي السياسات في منطقة اليورو إلى تحفيز الاستثمارات المختلفة، فقد رجّح تقرير "توقعات إدارة الثروات لعام 2025" الصادر عن بنك "جي بي مورجان"، أن هذا العام سيكون عامًا محوريًا للاستثمار الرأسمالي من قبل الحكومات والشركات، خاصة في مجالات الذكاء الاصطناعي، والبنية التحتية، والفضاء، والدفاع، وهو ما ستتجه إليه دول منطقة اليورو بشكل كبير؛ في سبيل تحقيق النمو الاقتصادي المُستدام.
(-) ارتفاع الديون الحكومية: يعتمد تنفيذ الاستراتيجيات المختلفة داخل منطقة اليورو نسبيًا على الاقتراض ما بين حكومات المنطقة، ومن ناحية، تسبب العجز الحكومي في زيادة الاقتراض الحكومي بشكل كبير، وهو الأمر الذي جعل التوقعات تذهب إلى ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من 87.4% في الربع الأول من عام 2025 إلى 88.3% في الربع الرابع من عام 2025.
(-) انخفاض قيمة اليورو: من المرجح أن تشهد عملة اليورو تراجعًا في ظل التأثيرات التجارية للرسوم الجمركية الأمريكية، إذ أن هذه الرسوم من المُحتمل أن تعمل على إضعاف منافسة المنتجات الأوروبية في السوق الأمريكية، فهذه السوق شكلت نحو 20% من صادرات الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي يترتب عليه ضعف الطلب على اليورو.
ومن ناحية أخرى، ليست السياسات التجارية هي عامل الضغط الوحيد على عملة اليورو، بل تأتي السياسات النقدية المُغايرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، في موضع تأثير كبير على هذه العملة، فارتفاع الأسعار المُحتمل في أمريكا قد يدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى رفع سعر الفائدة، وعلى العكس في أوروبا سيدفع تباطؤ النمو الاقتصادي إلى تخفيض معدلات الفائدة.
وعلى هذا الأساس، أشارت تقديرات جولدمان ساكس إلى أن تباين المواقف السياسية، قد يدفع اليورو إلى الانخفاض بنسبة 3%، قد تصل إلى 10% في حالة ارتفاع حدة التوترات التجارية العالمية، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى تدفق كبير لرؤوس الأموال من الأصول المُقومة باليورو إلى الدولار ذو العائد الأعلى، وعليه من المتوقع أن تنخفض قيمة اليورو أمام الدولار من 1.13 دولار في وقت كتابة التحليل إلى 1.09 دولار في الربع الأول من عام 2026.
وفي النهاية، يُمكن القول إن منطقة اليورو تشهد مرحلة النمو المُتعثر في ظل الأزمات الهيكلية والصدمات الخارجية، وهو ما يجعلها تعمل على وضع سياسات اقتصادية مُتدرجة، حيث يظهر ذلك في استجابات البنك المركزي الأوروبي من خلال سياسات نقدية حذرة، إلى جانب جهود بعض الدول؛ لتعزيز الإصلاحات الاقتصادية، ومن هنا يتضح الإرادة الجماعية لتجاوز هذه المرحلة.
ومع ذلك، فإن مستقبل منطقة اليورو يظل مرهونًا بقدرتها على تعزيز التكامل الاقتصادي، والاستثمار في التحول الرقمي والطاقة المستدامة، والحفاظ على التماسك السياسي بين الدول الأعضاء.