الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

دولة الرجل الواحد.. هل ينهي ترامب الحكم الدستوري في أمريكا؟

  • مشاركة :
post-title
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب

القاهرة الإخبارية - عبدالله علي عسكر

لم يعد خرق الدستور حدثًا طارئًا في السياسة الأمريكية بل احتمال يومي، فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب يبدو وكأنه يعيش في عالمه الخاص، حيث لا تُقاس السلطة بالدستور ولا يُقيد النفوذ بقانون، ففي هذا العالم الموازي، تتآكل الضوابط التي شكلت العمود الفقري للديمقراطية الأمريكية، ويحل مكانها منطق "من يملك القوة يكتب القواعد".

وتناولت شبكة "سي إن إن" الأمريكية، جملةً من المواقف والتصريحات التي أطلقها ترامب أخيرًا، تكشف عن نهج سياسي لا يعترف بحدود دستورية، ولا يُبالي بمفاهيم الحُكم الديمقراطي التي أرساها الآباء المؤسسون للولايات المتحدة.

دستور حسب الأهواء

خلال مقابلة مع برنامج "Meet the Press" الذي تبثه قناة NBC الأمريكية، تلقى ترامب سؤالًا بسيطًا ومباشرًا: "هل تحتاج إلى دعم الدستور؟"، فلم تكن إجابته بـ"نعم" أو "بالطبع"، بل كانت "لا أعرف"، وذلك بعد مرور ثلاثة أشهر فقط على أداءه اليمين الدستورية في ولايته الأولى.

هذه العبارة العابرة، التي قد يراها البعض مزحة أو زلة لسان، ترمز إلى تغيّر أعمق في شخصية ترامب السياسية؛ تغيّر يجعل من الدستور وثيقة خاضعة لتفسيره الشخصي، وليس التزامًا واجب التطبيق، ومن خلال مواقفه، يبدو ترامب وكأنه يختبر مدى قدرته على إعادة تشكيل العلاقة بين الرئيس والدولة بما يتجاوز الأعراف والتقاليد.

صلاحيات واسعة

في سلسلة من التحركات التي جمعت بين السياسة والقانون، لم يعد ترامب يكتفي بالتحديات الصاخبة في الإعلام، بل صار يسعى إلى تقويض الهياكل الدستورية والمؤسسية من الداخل، فقد تجاهلت إدارته المتكررة أحكام المحاكم الفيدرالية، بل وصل الأمر إلى تحدي المحكمة العليا بشأن مصير مهاجر غير موثق، أمر القضاء بإعادته، في موقف لم يسبق له مثيل في تاريخ العلاقة بين السلطة التنفيذية والقضائية.

ولم يقف ترامب عند حدود المحاكم، بل بدأ يمارس صلاحيات تنفيذية واسعة ضد مؤسسات أكاديمية وإعلامية وقانونية يعتبرها معاقل لليبراليين. الأمر الذي يبعث برسائل واضحة: أي مؤسسة لا تتماشى مع رؤيته، تصبح خصمًا مشروعًا.

حتى الفكاهة لدى ترامب لم تعد مجرد وسيلة للترويح عن النفس، بل باتت أداة سلطوية مغلّفة بالتصيّد السياسي، ففي صورة مركبة نشرها عبر منصة "تروث سوشيال"، ظهر مرتديًا زيًا بابويًا، وهي صورة تحمل دلالات رمزية بالغة، خصوصًا في بلد تُفصل فيه الكنيسة عن الدولة.

هذه الصورة، المسيئة للرموز الدينية عند الكاثوليك الرومان، لم تكن مجرد مزحة ثقيلة، بل إشارة واعية إلى فكرة "عصمة ترامب" التي بات يروّج لها أتباعه صراحة.

وازدادت غرابة الأمر عندما ظهرت الصورة نفسها على الحساب الرسمي للبيت الأبيض على منصة "إكس"، في واقعة وُصفت بأنها واحدة من أكثر الوثائق الحكومية غرابة في تاريخ الولايات المتحدة.

احتفال بالزعيم

ضمن مخططاته لإحياء الذكرى الـ250 لتأسيس الجيش الأمريكي، يعتزم ترامب تنظيم عرض عسكري ضخم في يونيو المقبل، بالتزامن مع عيد ميلاده، هذا التوقيت الرمزي، الذي يحاكي تقاليد الأنظمة الملكية أو الشمولية، يكشف عن ميل مقلق نحو تحويل المؤسسة العسكرية إلى أداة لتلميع شخصيته، لا تكريمًا للجمهورية.

قال "ترامب" في المقابلة ذاتها على NBC: "لدينا أعظم الصواريخ، الغواصات، والدبابات في العالم.. وسنحتفل بذلك"، هذه اللغة، التي تمزج بين التباهي العسكري والتفوق القومي، لم تكن بعيدة عن نغمة القادة الذين يسعون إلى إضفاء طابع شخصي على السلطة.

وفي ملف الاقتصاد، لا يبدو أن ترامب يولي اهتمامًا يُذكر لتأثير سياساته على حياة المواطنين اليومية. فعلى الرغم من أن سياسات الرسوم الجمركية تهدف - نظريًا - إلى استعادة الصناعات وتحفيز الإنتاج المحلي، فإن ترامب بدا غافلًا عن التكاليف الباهظة التي سيتحملها الأمريكيون.

في تصريح له مع NBC، قال ترامب إن الأطفال الأمريكيين "لا يحتاجون إلى 250 قلم رصاص، يمكنهم الاكتفاء بخمسة"، في محاولة للتقليل من تأثير النقص في سلاسل التوريد بسبب الحرب التجارية مع الصين، هذه التصريحات، التي اتسمت بالاستخفاف، لا تُسهم إلا في زيادة الفجوة بين الرئيس والمواطن العادي.

وحتى في قضية ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وهي من أبرز اهتمامات الناخبين في انتخابات 2024، استمر ترامب في الإصرار على أن الأسعار تنخفض، بينما الواقع المعيشي للأمريكيين يُثبت العكس.

تآكل الضوابط

ربما الأخطر من كل ذلك هو تغوّل ترامب بسبب غياب الأصوات المعارضة داخل إدارته أو حزبه، ففي ولايته الثانية، تعلّم ترامب من أخطائه السابقة، وأحاط نفسه بمسؤولين لا يجرؤون على معارضته، بل يشاركونه طقوس التمجيد.

في عرض تلفزيوني أخير، ظهر أعضاء حكومته وهم يتسابقون في الإشادة به، بينما تنازل الجمهوريون في الكونجرس عن دورهم الرقابي التقليدي، السيناتور الجمهوري رون جونسون، على سبيل المثال، قال على شبكة CNN: "لا أريد أن أضعف نفوذ الرئيس ترامب بتقويضه بأي شكل من الأشكال".

في المقابل، عبّر السيناتور الديمقراطي مارك وارنر عن قلق متزايد داخل صفوف الجمهوريين، مؤكدًا أن بعضهم بات يهمس سرًا بما لا يستطيع قوله علنًا: "قال لي أحدهم: مارك، أنت تُعبّر عن ضميرنا. لا أريد أن أكون ضميرك".

طموحات توسعية

وفي ملف السياسة الخارجية، بدا أن شهية ترامب للسلطة لا تتوقف عند حدود الوطن، ففي سؤاله عن جرينلاند، لم يستبعد ترامب استخدام القوة لضم الجزيرة التي تتبع الدنمارك، عضو حلف الناتو، وقال: "لا أقول إنني سأفعل ذلك، لكن لا أستبعد أي شيء.. نحن بحاجة ماسة إلى جرينلاند".

هذا التصريح، الذي يتجاوز الأعراف الدبلوماسية والقانون الدولي، يشي بنيّة توسعية تتعارض مع المبادئ التي تأسس عليها حلف شمال الأطلسي، وقد تُشكل تهديدًا حقيقيًا للاستقرار العالمي.

أما عن كندا، فقد طمأن ترامب المذيعة كريستين ويلكر قائلًا: "لا أتوقع ذلك من كندا"، في إشارة إلى عدم نيته استخدام القوة ضد الجارة الشمالية. وكان هذا التمييز بين الحلفاء الدوليين انعكاسًا للنهج الانتقائي الذي يتبعه ترامب، والذي يحوّل العلاقات الدولية إلى صفقات تفاوضية لا قواعد تحكمها.

دولة الرجل الواحد

في ضوء كل ما سبق، يُطرح سؤال "هل لا يزال النظام الأمريكي قادرًا على ضبط تغوّل السلطة الرئاسية؟ لتبدو الإجابة غامضة، فترامب، الذي لا يرى في الدستور إلا خيارًا قابلًا للنقاش، يُعيد تشكيل صورة الرئاسة الأمريكية على نحو غير مسبوق، وبينما يزداد حجم التواطؤ الحزبي، وتتآكل الضوابط المؤسسية، يبقى الخطر قائمًا "أن تتحول الولايات المتحدة، أعرق ديمقراطيات العالم، إلى دولة الرجل الواحد".

ولعل ما تخشاه "سي إن إن" – كما ورد في تحليلها – ليس مجرد عودة ترامب إلى البيت الأبيض، بل أن يأتي اليوم الذي يُنظر فيه إلى تلك العودة على أنها بداية النهاية للحُكم الدستوري في أمريكا.