من قلب القاهرة إلى العالم، يعود فن الحكي ليحتل مكانته الأصيلة كأحد أقدم وأقوى أشكال التعبير الإنساني، تتلاقى الحكايات مع الثقافات، وتتشابك الأصوات مع الذاكرة الشعبية في سرد لا يُنسى، يوثق تفاصيل الحياة والتاريخ والبشر، ويمنح للقصص حياة جديدة على ألسنة الحكّائين، وفي زمن يحاول فيه العالم إعادة اكتشاف إنسانيته، يعود فن الحكي ليقود الحوار الثقافي والاجتماعي، وتصبح الحكاية وسيلة للتوثيق والمصالحة مع الذات والآخر.
نجح ملتقى القاهرة الدولي للحكي في دورته الأولى، التي اختتمت قبل أيام، لكنه لم يطوِ صفحته بعد، بل أعلن نفسه كمنصة مستدامة، تمتد بأنشطتها طوال العام تجمع الحكّائين المصريين بأقرانهم حول العالم وتجوب المحافظات لتفتح منافذ جديدة لتوثيق الحكايات الإنسانية.
قالت الفنانة وفاء الحكيم، عضو مجلس الأمناء والمشرف العام على الملتقى، في تصريحات خاصة لموقع "القاهرة الإخبارية"، إن الحدث يمثل منصة دولية للحكائين من العالم العربي وخارجه، مؤكدة استضافة حكّاء من دولة عربية مختلفة شهريًا، إلى جانب حكّاء مصريين، في جولات فنية تتنقل في أنحاء مصر، خلال فصل الصيف، حيث قبل أيام قليلة استضاف الملتقى أيضًا حكائين من فرنسا وسويسرا والإمارات العربية المتحدة.
الحكاية تسافر
تؤكد "الحكيم" أن الحكايات ليست حبيسة العاصمة، بل تنبض بها القرى والمناطق النائية. تسعى فرق الملتقى إلى الوصول لتلك الأصوات الأصيلة، إذ تُقام ورش للحكي في محافظات عدة منها أسيوط، سوهاج، البحيرة وغيرها، في جامعة أسيوط مثلًا، سيُقام عرض حكي للكاتب أبو العباس محمد عن سيرة الصعيد، يليه عرض للفنان شريف دسوقي، بينما تتجه الفعاليات إلى سوهاج، يونيو 2025، ثم عروض حكي أخرى بمحافظة البحيرة بجانب عروض وورش حكي بالقاهرة.
استعادة الصوت الإنساني
بالتعاون مع المجلس القومي للمرأة، تُقام ورش حكي تستهدف الطلاب والفئات المهمشة، بقيادة الفنان محمد عبد الفتاح (كالا)، أحد أبرز المؤثرين في هذا المجال، إذ يسعى لتمكين المشاركين من التعبير عن ذواتهم، وكسر دائرة العزلة المفروضة عليهم بفعل التكنولوجيا أو الظروف الاجتماعية.
تقول وفاء الحكيم: "نحن لا نقدم فقط فنًا، بل نمنح الناس فرصة للبوح، للتعبير، وللشفاء النفسي والاجتماعي من خلال الحكاية".
سينما الحكي
كشفت أن الملتقى يُقدم نوعًا جديدًا من الفن أُطلق عليه "سينما الحكي"، مزجت بين الفيلم الوثائقي والعرض الحي، وتناولت موضوعات واقعية مثل مشكلات الشارع وموضوعات تتعلق بالمرأة والطفل، والهوية الشعبية، وشهدت هذه الفعاليات نقاشات حية مع الجمهور بعد العروض.
في جولة "حكي عبر القاهرة"، جال الحكّاؤون العاصمة، من منطقة لأخرى، راوين قصص الأماكن وسير أهلها، في تجربة فريدة من نوعها تحدث لأول مرة بهذا الشكل.
تاريخ يُروى.. وذاكرة تُوثق
في خطوة غير مسبوقة، تؤكد الحكيم أنه تم توثيق هذه الحكايات بالصوت والصورة كأرشيف حي لذاكرة الشعوب. كما نُظمت عروض حكي جماعية في مواقع تاريخية مثل قبة الغوري وبيت السناري، بحضور حكّائين من سويسرا، فرنسا، والإمارات، ما أضفى على الحدث بُعدًا دوليًا فريدًا.
يمتد أثر الحكي خارج حدود الفن، ليصل إلى دور المسنين، حيث تُقام ورش لسماع حكاياتهم ومشكلاتهم، كما يُفتح المجال للغارمات وأسرهن لسرد تجاربهن المؤلمة في عروض حكي تلامس قضايا اجتماعية وإنسانية حقيقية، في محاولة لتسليط الضوء عليها، وفتح باب التغيير والنقاش العام.
نحو عام كامل من الحكايات
وضعت إدارة ملتقى القاهرة الدولي للحكي خطة لأنشطة مستمرة طوال العام، تشمل استضافات شهرية، وورشًا متعددة في مختلف المحافظات، لتأسيس ثقافة جديدة تُعيد لفن الحكي مكانته، ليس فقط كفن، بل كأداة حضارية وشعبية للتوثيق والتعبير.
فن الحكي اليوم ليس مجرد ترفيه أو رواية ممتعة، بل هو مقاومة ناعمة للنسيان، ونافذة على الذات والآخر. من الشفاه الشعبية إلى المنصات الدولية، تثبت الحكاية أنها لا تزال الأكثر تأثيرًا، والأقرب إلى قلب الإنسان.