تُعد وزارة الخارجية الأمريكية إحدى الركائز الأساسية في تنفيذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية، ولعبت دورًا محوريًا في تشكيل النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، غير أن هذا الدور شهد تحديات متزايدة في العقود الأخيرة، لا سيما في ظل التحولات السياسية الداخلية والتغيرات في موازين القوى العالمية. وفي السياق ذاته، جاءت قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أبريل 2025، بإعادة هيكلة وزارة الخارجية كجزء من رؤية شاملة لإعادة تعريف الدور الأمريكي على الساحة الدولية، من خلال تقليص عدد الدبلوماسيين، إغلاق عدد من المكاتب المتخصصة، وتخفيض الموازنات المخصصة للمساعدات الخارجية. فهذه الخطة تستهدف تقليص حجم هذه الوزارة وتعزيز كفاءتها بما يتماشى مع شعار "أمريكا أولًا" الذي يتبناه ترامب، وتمثل هذه الإجراءات نقلة نوعية في نمط الدبلوماسية الأمريكية، وتثير تساؤلات عميقة حول مدى فاعليتها، وانعكاساتها الدولية على مكانة الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى علاقتها بحلفائها وشركائها، لا سيما في القضايا المرتبطة بحقوق الإنسان، والتنمية الدولية، وبناء السلام.
في ضوء ما سبق، يأتي هذا التحليل لإلقاء الضوء على أهم أبعاد وملامح خطة وقرارات ترامب لإعادة هيكلة وزارة الخارجية الأمريكية، ومحاولة تحديد ما تم تنفيذه منها على أرض الواقع، إضافة إلى محاولة التقييم المبدئي لآثارها المحتملة على مستقبل السياسة الخارجية الأمريكية.
أبرز ملامح خطة إدارة ترامب
تتضمن هذه الخطة المحاور الأساسية التالية:
(*) إغلاق مكاتب متخصصة وتقليل عدد البعثات الدبلوماسية: تم إغلاق مكاتب متخصصة مثل مكتب شؤون المرأة العالمية، ومكتب شؤون حقوق الإنسان، إضافة إلى تقليص عدد السفارات والقنصليات في مناطق مثل إفريقيا وكندا، فخطة ترامب لإعادة هيكلة وزارة الخارجية، تشمل إغلاق 132 من أصل 734 مكتبًا.
(*) إعادة هيكلة وزارة الخارجية وفقًا لأسس جغرافية: تم إعادة تنظيم الوزارة بتقسيم إداراتها إلى أربع مناطق جغرافية، بهدف تعزيز الكفاءة الإدارية وتبسيط العمليات الدبلوماسية.
(*) تقليص عدد الموظفين والميزانية المخصصة لأعمال الدبلوماسية الأمريكية: تم تقليص الميزانية بنسبة تصل 20%، ما أثر على البرامج الإنسانية والتنموية، مثل برنامج "PEPFAR" لمكافحة الإيدز.
(*) إلغاء وكالة التنمية الدولية الأمريكية (USAID): تم دمج وكالة التنمية الدولية الأمريكية (USAID) بالكامل تحت مظلة وزارة الخارجية، مع تقليص عدد موظفيها إلى 15 فقط، ما يُعتبر فعليًا إلغاءً للوكالة.
(*) تجميد المساعدات الخارجية الأمريكية: أصدر ترامب أمرًا تنفيذيًا بتجميد جميع برامج المساعدات الخارجية لمدة 90 يومًا، مع استثناءات محدودة تشمل المساعدات الإنسانية الطارئة أو المساعدات العسكرية لدول مثل مصر وإسرائيل.
وحتى الآن، تم تنفيذ بعض جوانب خطة ترامب لإعادة هيكلة الخارجية الأمريكية، مثل إغلاق بعض المكاتب المتخصصة وتقليص الميزانية. ومع ذلك، لم يتم تنفيذ جميع الإجراءات المقترحة بالكامل، مثل إغلاق السفارات والقنصليات في بعض الدول. فهذه الخطط تواجه مقاومة من بعض أعضاء الكونجرس والجماعات الإنسانية، ما قد يؤثر على سرعة تنفيذها.
تحديات وصعوبات متعددة
تواجه خطة وقرارات ترامب لإعادة هيكلة وزارة الخارجية الأمريكية، العديد من التحديات والصعوبات السياسة والتنفيذية والمهنية، على النحو التالي:
(*) المقاومة السياسية لخطة ترامب لإعادة هيكلة الخارجية الأمريكية: تواجه خطة إعادة الهيكلة مقاومة من بعض أعضاء الكونجرس والجماعات الإنسانية، الذين يرون أن هذه الإجراءات قد تضعف قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على التأثير في الشؤون العالمية.
(*) التحديات التنفيذية لخطة ترامب لإعادة هيكلة الخارجية الأمريكية: قد تواجه وزارة الخارجية تحديات في تنفيذ هذه الخطة بشكل فعّال، خاصة في ظل التغيرات الكبيرة في الهيكل التنظيمي والموارد البشرية.
(*) الصعوبات المهنية لخطة ترامب لإعادة هيكلة الخارجية الأمريكية: أدت هذه الخطط إلى استقالات جماعية من كبار الدبلوماسيين، ما يتمخض عنه فقدان الخبرات المتراكمة ويزيد من صعوبة تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية بفعالية.
تداعيات سلبية محتملة
تتعدد جوانب التداعيات التي يمكن رصدها بشأن تأثير خطط إعادة هيكلة الخارجية الأمريكية على الدبلوماسية الأمريكية، التي يأتي في مقدمتها ما يلي:
(*) احتمال تراجع النفوذ الأمريكي في الساحة الدولية: قد يؤدي إلغاء مكاتب متخصصة في حقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين إلى تقليص قدرة الولايات المتحدة على التأثير في قضايا حقوق الإنسان على المستوى العالمي، ما قد يضعف صورتها كمدافع عن مثل هذه القيم أو تحقيقها لأي أهداف تحت مظلة أو ذريعة مثل هذه القيم. كذلك قد تؤدي التغييرات التي تشملها خطة إعادة هيكلة وزارة الخارجية الأمريكية إلى تراجع في النفوذ الأمريكي على الساحة الدولية، خاصة في المناطق التي تعتمد على المساعدات الأمريكية.
(*) تنامي التحديات أمام تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية: يحد إغلاق العديد من البعثات الدبلوماسية من قدرة الولايات المتحدة على التفاعل المباشر مع الدول الأخرى، ما يؤثر سلبًا على قدرتها على التوسط في النزاعات وحل القضايا الإقليمية والدولية المعنية بها.
(*) التأثير السلبي على علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع الحلفاء التقليديين: قد يثير تقليص التواجد الدبلوماسي الأمريكي في مناطق مثل أوروبا وآسيا قلق الحلفاء التقليديين بشأن التزام الولايات المتحدة بأمنهم واستقرارهم، ما قد يؤدي إلى إعادة تقييم هذه الدول لعلاقاتها مع واشنطن.
أي مستقبل ينتظر الدبلوماسية الأمريكية؟
في ضوء ما سبق توضيحه، يبدو في الأفق أن مستقبل الدبلوماسية الأمريكية بعد قرارات ترامب بإعادة هيكلة وزارة الخارجية متجهًا نحو تغيير كبير في شكل وأدوات تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية. وفي ضوء ذلك يمكن تحديد أهم ملامح مستقبل الدبلوماسية الأمريكية في الفترة المقبلة، على النحو التالي:
(*) تراجع الدور العالمي للولايات المتحدة الأمريكية: مع تقليص عدد السفارات والمكاتب المتخصصة، ستكون الولايات المتحدة أقل حضورًا في مناطق الصراع أو التنمية، ما يفسح المجال لقوى أخرى مثل الصين وروسيا للعب أدوار أكبر.
(*) تغيير الأولويات لدى الدبلوماسية الأمريكية لتصبح أكثر اهتمامًا بالمصالح على حساب القيم: قد يُنظر إلى إلغاء مكاتب حقوق الإنسان وشؤون المرأة على أنه تخلٍ عن الدبلوماسية القائمة على القيم، لصالح تبني نهج أكثر واقعية يركز على المصالح الاقتصادية والأمنية المباشرة.
(*) تراجع معدلات الخبرة والكفاءة لدى الدبلوماسية الأمريكية: سيترتب على استقالات كبار الدبلوماسيين وخفض الموارد المالية، فقدان التراكم المهني والخبرة الدبلوماسية، التي طالما اعتمدت عليها الولايات المتحدة في علاقاتها الخارجية.
(*) إعادة تعريف العلاقات الأمريكية من جانب الحلفاء: قد تعيد بعض الدول تقييم علاقاتها بواشنطن نتيجة تراجع الالتزام الأمريكي التقليدي بقضايا عالمية مثل المناخ، حقوق الإنسان، والاستقرار الإقليمي.
(*) ظهور أدوات جديدة ودبلوماسية أمريكية بديلة: قد تعتمد الإدارة الأمريكية مستقبلًا على أدوات بديلة مثل الشركات متعددة الجنسيات، أو الأذرع الأمنية، أو حتى الذكاء الاصطناعي، لتعويض غياب الدبلوماسية التقليدية.
ختامًا، يمكن القول إنه على الرغم من أن خطط ترامب بشأن إعادة هيكلة الخارجية الأمريكية تستهدف تقليل البيروقراطية وتعزيز الكفاءة، فإن تنفيذها الكامل يواجه تحديات سياسية وتنفيذية ومهنية، ومن المتوقع أن تستمر التطورات المرتبطة بتنفيذ هذه الخطط وعلى أرض الواقع في التأثير على العلاقات الدولية للولايات المتحدة في المستقبل القريب. فإذا استمرت تلك الخطط دون تعديل أو توازن من الكونجرس أو الإدارات القادمة بعد ترامب، فستدخل الدبلوماسية الأمريكية مرحلة جديدة يغلب عليها الطابع الانعزالي، على حساب نفوذها التقليدي وسمعتها العالمية.