رصدت التناقض بين وجودي في مكان آمن بينما هناك عائلات تعيش واقعًا صعبًا
تمنيت أن يشعر المشاهدون أنهم كانوا شهودًا على رحلة إنسانية صادقة ومعقدة
في تجربة شخصية شديدة الخصوصية، تنسج المخرجة الفلسطينية صابرين خوري فيلمها "أعجوبة الحياة"، لتروي قصة امرأة حامل تعيش في هولندا، ويثقلها مزيج من التغيرات الجسدية والاضطرابات النفسية، لتتحدى الأعراف المجتمعية المرتبطة بالحمل والأمومة وسط صراع داخلي يتأجج مع تصاعد حرب الإبادة في غزة.
الفيلم الذي يُعرض لأول مرة عالميًا ضمن مهرجان بيروت الدولي لسينما المرأة، يرصد مشاعر الذنب والاغتراب والامتياز، في عمل بصري حميمي يتحدى الصورة النمطية للحمل والأمومة، ويطرح تساؤلات عن الهوية والوجع الإنساني، وفي حوارها لموقع "القاهرة الإخبارية" كشفت المخرجة صابرين خوري عن كواليس الفيلم، والصعوبات التي واجهتها، وسر حماسها للعمل، والرسائل التي أرادت إيصالها من خلاله.
ما الذي ألهمكِ لصناعة فيلم "أعجوبة الحياة".. وهل تحمل القصة أبعادًا ذاتية أو شخصية بالنسبة لكِ؟
في سبتمبر 2023، اكتشفت أنني حامل، كان حملًا مخططًا له، واستقبلته بفرح وامتنان، وكنت متحمسة لهذه الرحلة الجديدة، لمرحلة الأمومة بكل تحولاتها، لكن سرعان ما اختلط الفرح بالألم الجسدي والنفسي، وبأسئلة وجودية لم أكن مستعدة لها، وغالبًا ما تقدم تجربة الحمل والولادة بصورة نمطية، كأنها مسار واحد مليء بالفرح فقط، لكن تجربتي كانت أكثر تعقيدًا، حين صنعت هذا الفيلم، كان بمثابة محاولة لفهم ما مررت به خلال فترة الحمل، التي لم تكن كما المتوقع، مجرد مرحلة من السعادة، بل كانت مليئة بالتقلبات النفسية، والقلق، وتغيرات في الجسد والهوية، والخوف من المجهول، وكان الألم الجسدي والنفسي حقيقيًا وثقيلاً، ورافقني شعور العجز في كل خطوة.
والحقيقة أن هذا الفيلم ولد من رحم تلك المشاعر الحادة والمربكة، ومن تمزقي بين ألمي الشخصي وما كان –ولا يزال– يحدث في غزة من مآسٍ ودمار أشعرني بالذنب والخجل، وراودني سؤال لم يفارقني: هل يحق لي التعبير عن ألمي بينما يواجه أهلنا هناك الإبادة، ويعانون من أهوال لا يمكن حتى تخيّلها؟.. شعرت بالخجل من دموعي، وبالوجع والعجز في تلك اللحظات، وما زلت أشعر بذلك حتى اليوم. وأنا سعيدة بعرضه في مهرجان بيروت الدولي لسينما المرأة، لنقل مشاعري وتجربتي إلى جمهور جديد.
هذا الفيلم ولد من ثقل تلك المشاعر، من الامتياز، والشعور بالذنب، والألم الناتج عن مشاهدة الإبادة بينما كنت أحمل حياة جديدة في بلد آمن وبعيد.
كيف ولدت فكرة الربط بين تجربة الحمل في الغربة والحرب في غزة.. وما الرسائل التي حرصتِ على إيصالها من خلال هذا التوازي؟
الفكرة جاءت من مشاعر حقيقية كنت أعيشها يوميًا، فقد كنت حاملاً للمرة الأولى، أعيش في مكان آمن، أستعد لاستقبال حياة جديدة، وفي الوقت نفسه، أتابع صور وفيديوهات من حرب الإبادة في غزة هذا التناقض كان ثقيلًا عليّ، إذ شعرت أنني أعيش في "فقاعة"، بينما هناك نساء وأطفال وعائلات يعيشون واقعًا يعجز الوصف عن احتوائه، شعرت بالذنب والخجل والعجز، وربما كان هذا الفيلم طريقتي للتعامل مع تلك المشاعر، وللتعبير عن نفسي وسط شعور الامتياز والأمان الذي أعيشه.
تمر البطلة في الفيلم برحلة جسدية وعاطفية معقدة.. كيف عملتِ على بناء هذه الشخصية لتكون واقعية وصادقة بالنسبة للمشاهد؟
لم أبنِ الشخصية بشكل منفصل عن ذاتي، بل كانت انعكاسًا حقيقيًا لمشاعري وتجربتي، حيث اعتمدت على الصدق الكامل مع نفسي، وحرصت على ترك مساحة للمشاعر كي تظهر كما هي، دون تزيين أو تلطيف، أردت أن تعكس الشخصية تناقضات الحب والخوف، الفرح والذنب، القوة والهشاشة في آن واحد، لم أرد تقديم صورة مثالية، بل واقعية، حتى وإن بدت مُربكة أو مؤلمة أحيانًا.
يتناول الفيلم بجرأة موضوعات الخوف من التغيرات الجسدية، والأمومة، والهوية.. كيف تعاملتِ مع هذه الموضوعات الحساسة دون الوقوع في النمطية أو المباشرة؟
لم أكن أفكر في النمطيات أثناء كتابة الفيلم، كنت غارقة تمامًا في تجربتي الشخصية. كتبت كل حدث كما وقع، دون تزيين أو مواءمة مع صورة معينة في كثير من الأحيان، كنت بحاجة إلى وقت لفهم ما مررت به، وأحيانًا شعرت بالعجز، وكأنني أطفو في بحر من المشاعر دون قدرة على حماية نفسي من تياراته.
لم أخجل من الاعتراف بأنني راقبت جسدي عن كثب، وأنني لم أستمتع بالتغيرات الجسدية والنفسية التي مررت بها. كنت حريصة على ألا أفقد نفسي خلال الرحلة، وما زلت أعمل على ذلك حتى اليوم. شعور تأنيب الضمير ما زال يرافقني.
كنت أيضا أراقب الناس من حولي، كيف أن نظراتهم، وإن صمتوا، كانت تحمل رسائل غير معلنة، لم أستمتع بفترة الحمل، لكنني أستمتع بكل لحظة من الأمومة، وأنا ممتنة أكثر مما يمكن للكلمات أن تعبر عنه.
ما الأساليب البصرية أو السردية التي اعتمدتِ عليها لنقل هذا العالم الداخلي للمشاهد؟
قررت أن تكون الكاميرا قريبة من الشخصية، وأردت أن يشعر المشاهد بأنه لا يراقب من بعيد، بل يعيش التجربة معها، بل وأحيانًا داخلها، كان مهمًا بالنسبة لي نقل مشاعر التوتر، والتعب، والحنين دون حواجز.
أردت للكاميرا أن تكون مثل صديقة قديمة تعرفني جيدًا، لا تحكم علي، بل تنظر وتشارك الصمت والتعب والانكسار. هذا القرب ساعدني على التركيز على التفاصيل الصغيرة، نظرة، نفس، حركة يد، كلها تصبح أكثر وقعًا حين تُرى من مسافة قريبة، ويُمنَح لها وقتٌ كافٍ لتتنفس.
كما استخدمت الكثير من اللحظات الصامتة. أردت أن أترك للمشاهدين والمشاهدات مساحة للتأمل، ليشعروا بأنفسهم بكل ما يحدث، الصمت ليس غيابًا للكلام فقط، بل أداة تعبيرية قوية. في الصمت، نكون وجهًا لوجه مع ذواتنا، وقد لا يكون هناك ما يقال، لكن النظرات، والأفعال، وحتى صمت الجسد، يمكن أن تنقل مشاعر أعمق بكثير مما يقوله الحوار.
كيف ساعدك المكان –هولندا– في إبراز حالة الاغتراب أو التأمل التي تعيشها البطلة؟
أحب هولندا، لكن من حيث موقع الفيلم، كان يمكن أن يصوّر في أي مكان آخر، الطقس البارد والرمادي هنا يعزز الشعور بالعزلة، وهو ما يتناقض مع الهدوء الظاهري في البيئة المحيطة.
برأيي، هذا التباين ساعدني في تسليط الضوء على الفوضى الداخلية التي مررت بها. البيوت النظيفة والمنظمة، ونمط الحياة المدروس بعناية، تعكس التناقض بين الهدوء الخارجي والفوضى العاطفية الداخلية. وهكذا أصبح المكان استعارة بصرية للشعور بالاغتراب والصراع الداخلي.
ما أبرز التعليقات أو اللحظات التي أثرت فيك شخصيًا بعد عرض الفيلم؟
تأثرت جدا عندما اقتربت مني بعض النساء وقالت لي "شكرا"، وكأن تجربتي جعلت أصواتهن تسمع. كما أسعدني أن رجالًا قالوا لي: "لم نكن نعرف أنكن تمررن بكل هذا. كان رائعًا أن أسمع من الناس أنني نجحت في تقديم فيلم صادق وعميق.
ما الذي تتمنين أن يبقى في ذهن المشاهد بعد انتهاء الفيلم؟
أتمنى أن يشعر المشاهدون بأنهم خاضوا تجربة إنسانية نسائية عميقة، وأنهم كانوا شهودًا على رحلة صادقة ومعقدة.