منذ عودة دونالد ترامب إلى المكتب البيضاوي، مع وعود بجلب ازدهار عصرٍ ذهبي مفقود لأمريكا، بدا أن الولايات المتحدة مقبلة على مرحلة غير مسبوقة،لكن السياسات التي اتبعها خلال أول مئة يوم من ولايته الجديدة، قادت أكبر اقتصاد في العالم إلى حافة الأزمة، وأثارت موجات قلق داخلي وخارجي عارمة.
وحسب تحليل نشرته شبكة "سي إن إن" الأمريكية، تكشّفت صورة لواقع اقتصادي متأزم، حيث التصريحات النارية والقرارات المنفردة، تهدد بإعادة تشكيل موقع الولايات المتحدة في العالم، لا بوصفها قائدًا للأسواق، بل باعتبارها عبئًا على استقرارها.
رياح الأزمة تهب سريعًا
أمضى الرئيس دونالد ترامب أول مئة يوم بعد عودته إلى السلطة وهو يقود الاقتصاد الأمريكي نحو شفير الأزمة، فبينما كان الأمريكيون يترقبون إصلاحات تخفف من وطأة ارتفاع أسعار الغذاء وتعيد إليهم بريق أيام ما قبل الجائحة، جاءت سياسات ترامب لتعصف بتطلعاتهم، وتغرق الأسواق في موجات من القلق والخوف.
وحسب "سي إن إن"، فبدلًا من توفير الإغاثة، عمد ترامب إلى تطبيق سياسات من المتوقع أن تدفع بالأسعار نحو مزيد من الارتفاع، وتُحدث نقصًا في السلع الأساسية، ما ألقى بظلال ثقيلة على الشركات الصغيرة والكبيرة على حد سواء، ودفع بصنّاع القرار الاقتصادي إلى التحذير من ركود اقتصادي وشيك.
مغامرة تجارية
أصر ترامب على أنه قادر على إعادة الولايات المتحدة إلى العصر الذهبي أواخر القرن التاسع عشر عبر فرض تعريفات جمركية واسعة النطاق، وبرر خطواته بأنها "جميلة"، مشيرًا إلى أنها وسيلة فعّالة لفرض الهيمنة الاقتصادية على المنافسين التجاريين.
غير أن الواقع أثبت عكس ذلك، فقد تراجعت مؤشرات الأسهم بشكل حاد، وأعلنت شركات طيران عن تقليص رحلاتها، فيما توقفت بعض المتاجر عن بيع المنتجات الصينية، كما خفّض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو الأمريكي، وحذّر الاحتياطي الفيدرالي من تباطؤ حركة التوظيف.
في هذا السياق، انخفضت ثقة المستهلك الأمريكي إلى رابع أدنى مستوى لها منذ عام 1952، وسجّل مؤشر الخوف والجشع الذي ترصده شبكة "سي إن إن" مستويات "خوف" أو "خوف شديد" خلال الشهر الماضي.
عشوائية للقوة
تحليل شبكة "سي إن إن" أشار إلى أن ترامب استخدم سلطات واسعة دون مراجعة تشريعية عندما أعلن حالة طوارئ وطنية لشن حرب تجارية، وهو بذلك ينفذ رؤية قديمة يرى فيها أن الولايات المتحدة تعرضت للنهب التجاري لسنوات طويلة، ويؤمن بأن فرض التعريفات سيعيد المصانع والوظائف إلى الداخل الأمريكي.
لكن استخدامه للقوة الاقتصادية بشكل منفرد، وتحت شعار "أمريكا أولاً"، أثار سخط الحلفاء وأدى إلى توتر العلاقات الدولية، فملايين الوظائف باتت مرهونة بنتيجة هذه المقامرة، فيما يتزايد الخوف من أن سياساته قد تُحدث اضطرابات دائمة في سلاسل الإمداد العالمية.
إحدى أكبر الأخطاء التي ارتكبها ترامب كانت مهاجمته لرئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، ومطالبته بتخفيضات كبيرة في أسعار الفائدة رغم تحذيرات المختصين. هذه التصرفات اعتُبرت تهديدًا لاستقلالية البنك المركزي الأميركي، وأثارت مخاوف المستثمرين الذين رأوا في التدخلات الرئاسية عاملًا إضافيًا لزعزعة استقرار الأسواق.
التلاعب بأسعار الفائدة في ظل رسوم جمركية متصاعدة يزيد من احتمالات ارتفاع التضخم، ما يجعل الاقتصاد أكثر عرضة للركود الذي تحذر منه التقارير الدولية.
مواجهة الصين
ضمن مغامرته الاقتصادية، فتح ترامب جبهة واسعة ضد الصين عبر فرض تعريفات ضخمة بلغت 145%، ومن خلال خطاباته وتصريحاته، كرر القول بأن الولايات المتحدة ستخرج منتصرة من هذه الحرب الاقتصادية، غير أن بكين لم تُبدِ أي تراجع أمام الضغوط، ما ينذر بتصعيد طويل الأمد قد يعيد رسم خريطة الاقتصاد العالمي لعقود قادمة.
في مقابلة مع مجلة "تايم"، أعلن ترامب بثقة أن الولايات المتحدة ستشهد قريبًا "أغنى فترات تاريخها"، ولكن الواقع يقول إن الأسواق تسير في اتجاه مغاير تمامًا.
بخلاف الأزمات الاقتصادية التقليدية الناجمة عن صدمات خارجية، فإن ما يحدث اليوم سببه سياسات متعمدة يتبناها ترامب شخصيًا، غير مكترث بالتحذيرات أو المؤشرات الحمراء، فقد فرض التعريفات بشكل تعسفي، عدّلها بلا خطة واضحة، وخلق حالة من الفوضى أدت إلى شلل اقتصادي متزايد.
وفي الوقت الذي يدّعي فيه توقيع أكثر من 200 صفقة تجارية، فإن الشركاء التجاريين الرئيسيين مثل الصين يكذبون تلك الادعاءات، مما يعمق من حالة الضبابية الاقتصادية.
تآكل الثقة الشعبية
تدهور شعبية ترامب كان سريعًا، وفق استطلاع رأي أجرته CNN/SSRS، انخفضت نسبة تأييده إلى 41%، وهو أدنى مستوى لرئيس أميركي خلال أول 100 يوم من ولايته منذ سبعة عقود، والأخطر أن نسبة تأييده على الملف الاقتصادي الذي طالما اعتبره سلاحه الانتخابي هبطت إلى 39% فقط، بينما دعم 35% فقط سياساته في مواجهة التضخم.
هذا التآكل السريع للثقة يثير تساؤلات حقيقية حول قدرة ترامب على الصمود سياسيًا إذا ما تفاقمت الأزمة الاقتصادية التي صنعها.
ورغم وعوده بأنه "صانع الصفقات الأعظم"، إلا أن ترامب لم يحقق حتى الآن أي اختراق تجاري كبير، الإدارة تراهن على بدء موجة من الاتفاقات مع دول مثل اليابان وكوريا الجنوبية والاتحاد الأوروبي، لكن خبراء الاقتصاد يشيرون إلى أن هذه الصفقات إن تحققت ستستغرق سنوات ولن تكون بالحجم الكافي لإحداث تغيير حقيقي في المشهد الاقتصادي.
ارتفاع الأسعار
حتى لو تمكن ترامب من تحقيق بعض المكاسب عبر التعريفات، فإن الكلفة ستكون باهظة على المستهلك الأمريكي، فهو يخطط لفرض رسوم جمركية قد تصل إلى 50% على بعض الواردات، مما يعني زيادة حادة في أسعار السلع، في وقت يعاني فيه الأميركيون بالفعل من آثار التضخم.
كما أشار ترامب إلى نيته بأن يكون هو المسؤول المباشر عن تحديد أسعار السلع، في خطوة تعيد إلى الأذهان الأنظمة الاقتصادية العشوائية التي غالبًا ما تنتهي بفوضى وفساد وانهيار شامل.
وفي تحذير لافت، قال المستثمر الملياردير كين غريفين في قمة "سيمافور" للاقتصاد العالمي: "كانت الولايات المتحدة أكثر من مجرد دولة، كانت علامة تجارية، كانت حلمًا لمعظم دول العالم، ونحن نشهد حاليًا تآكلًا لهذه العلامة التجارية".
إن استمرار السياسات الحالية قد يدفع الولايات المتحدة إلى فقدان مكانتها بوصفها قاطرة الاقتصاد العالمي، ويترك العالم أمام مرحلة جديدة عنوانها: الفوضى وعدم اليقين.