عادت شبه جزيرة القرم المتنازع عليها في البحر الأسود إلى صدارة المشهد الدولي عبر بوابة غير متوقعة، وهي مقترح سلام قدمته إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يُمهّد لاحتمال تاريخي مثير للجدل، يتمثل في اعتراف الولايات المتحدة لأول مرة بأن القرم أرضٌ روسية، في انعطافة قد تُنهي أكثر من عقد من الموقف الأمريكي الثابت الرافض لهذا الضم.
خطة ترامب الجديدة
وكشفت صحيفة "نيويورك تايمز" عن مقترح سلام جديد قدمته إدارة ترامب في العاصمة البريطانية لندن، يقضي باعتراف الولايات المتحدة بسيادة روسيا على شبه جزيرة القرم، والتي ضمتها موسكو من أوكرانيا عام 2014.
هذا التحول الجذري في السياسة الأمريكية، إذا ما تم، سينهي أكثر من عقد من الرفض الأمريكي والغربي لضم القرم، ويفتح الباب أمام نقاشات حادة بشأن شرعية تغيير الحدود بالقوة، خاصة أن هذا الاعتراف يأتي ضمن جهود ترامب لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية.
ومنذ بداية رئاسته، أبدى ترامب مواقف متقلبة تجاه القرم، إذ صرح كمرشح رئاسي، بأنه "سينظر في الأمر"، مشيرًا إلى أن "شعب القرم يُفضِّل أن يكون مع روسيا"، وهو تصريح أثار قلق كييف وحلفاء واشنطن، إلا أنه بعد وصوله إلى البيت الأبيض، لم يُترجم تلك المواقف إلى خطوات عملية، بل أصدر وزير خارجيته حينها مايك بومبيو، "إعلان القرم" عام 2018، الذي جدد التزام الولايات المتحدة بعدم الاعتراف بضم روسيا للقرم.
لكن ما يُقترح الآن يُعدُّ تراجعًا جذريًا عن هذا الإعلان، ووصفه الدبلوماسي الأمريكي المخضرم دانيال فريد، بأنه "أسوأ ما في المقترح"، مؤكدًا أن القبول بالأمر الواقع شيء، أما الاعتراف الرسمي بالضم القسري فهو انتهاك صريح للمبادئ الدولية.
اعتراف محفوف بالمخاطر
حذّر سياسيون أمريكيون من تداعيات هذا المقترح، وعلى رأسهم السيناتور الجمهوري ماركو روبيو، الذي رعى مشروع قانون في أكتوبر 2022 يمنع أي اعتراف أمريكي بالمطالبات الروسية في أوكرانيا، ورأى في هذا التنازل المحتمل "سابقة خطيرة" قد تشجع أنظمة استبدادية، مثل الصين، على السير في النهج ذاته، خصوصًا في ظل التوترات حول تايوان.
ورفض الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي صراحة أي احتمال للاعتراف بالسيطرة الروسية على القرم، مؤكدًا أن ذلك "يُخالف الدستور الأوكراني" ولا يمكن التفاوض عليه، وقال: "لا مجال للحديث عنه إنها أرضنا، أرض الشعب الأوكراني".
مع ذلك، يميز ترامب في مقترحه بين موقف أوكرانيا وموقف الولايات المتحدة، معتبرًا أن واشنطن يمكنها الاعتراف دون أن تُجبر كييف على ذلك، وكتب ترامب في بيان: "لا أحد يطلب من زيلينسكي الاعتراف بشبه جزيرة القرم كأرض روسية".
معركة خاسرة
منذ 2014، تعززت السيطرة الروسية على القرم عسكريًا واقتصاديًا، وأجرت روسيا استفتاءً واسع الانتقاد، كما شيدت جسورًا ضخمة تربط شبه الجزيرة بالبر الروسي، وفرضت تغييرات ديموغرافية وجغرافية واقتصادية متسارعة.
ووفق "نيويورك تايمز"، فإن المحللين يعتبرون أن استعادة القرم باتت شبه مستحيلة عسكريًا، خاصة مع عجز أوكرانيا عن استرداد أراضيها الشرقية بعد أكثر من عامين من القتال العنيف.
وليست القرم مجرد أرض محتلة بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بل تمثل إرثًا تاريخيًا واستراتيجيًا، فيمثل ميناء سيفاستوبول، حيث يتمركز أسطول البحر الأسود، ركيزة نفوذ موسكو في البحر الأسود.
ومنذ ضمها عام 2014، اعتبر بوتين أن عودة القرم إلى روسيا "تصحيحٌ لخطأ تاريخي"، في إشارة إلى قرار نيكيتا خروتشوف عام 1954 بنقل تبعية القرم إلى أوكرانيا في إطار الاتحاد السوفييتي السابق.
سجل خارج السياق
لترامب سجل سابق في الاعتراف بمناطق متنازع عليها، إذ اعترف عام 2019 بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان السورية، وفي 2020 دعم مطالبة المغرب بالصحراء الغربية مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
لكن صامويل شاراب، المحلل في مؤسسة "راند"، شكك في جدوى الاعتراف الأمريكي بالقرم كوسيلة لتحقيق السلام. وذكّر بسابقة إعلان "سومنر ويلز" عام 1940، الذي رفض فيه الاحتلال السوفييتي لدول البلطيق.
هذا الإعلان، رغم السخرية التي قوبل بها حينها، تحول لاحقًا إلى نبوءة سياسية بعدما استعادت تلك الدول استقلالها في تسعينيات القرن الماضي.
يرى بعض المحللين أن المقترح قد يكون مجرد "اعتراف بالواقع" أكثر من كونه تنازلًا سياسيًا، نظرًا لتعقيد استرجاع القرم بالقوة، لكن الاعتراف الرسمي الأمريكي سيمنح روسيا شرعية دولية جزئية، ويُقوّض مبدأً دوليًا أساسيًا يمنع تغيير الحدود بالقوة.
في المقابل، يعتقد آخرون أن المقترح قابل للتعديل، خاصة أن ترامب نفسه ألمح إلى مرونة في صياغته النهائية. ومع ذلك يُثير هذا التطور تساؤلات جدية حول مستقبل النظام الدولي، ومفهوم السيادة، وحدود السياسة الواقعية في وجه المبادئ الثابتة.