في لحظةٍ يعاني فيها الاقتصاد العالمي من حالة توتر غير مسبوقة، يُطلق صندوق النقد الدولي صفارة إنذار محذرًا من تداعيات السياسات الحمائية التي انتهجتها الولايات المتحدة، وعلى رأسها الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
تقرير اقتصادي جديد صادر عن الصندوق يكشف كيف أصبح الاقتصاد الأمريكي، الذي لطالما اعتُبر منيعًا، أصبح الآن عاملًا رئيسيًا في كبح جماح النمو العالمي، في وقت لا يزال فيه العالم يحاول استيعاب الصدمات الجيوسياسية والمالية الأخيرة.
اقتصاد في قلب العاصفة
قال صندوق النقد الدولي، في تقريره الصادر اليوم الثلاثاء، إن الاقتصاد الأمريكي هو العامل الأهم في تراجع توقعات النمو العالمي للعام 2025، وعزا الصندوق هذا التراجع بالدرجة الأولى إلى الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس دونالد ترامب في إطار سياسة تجارية وصفت بأنها تعيد رسم قواعد التجارة العالمية.
بيير أوليفييه جورينشاس، كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، كتب على مدونة المؤسسة بالتزامن مع نشر تقرير التوقعات الاقتصادية العالمية، قائلًا: "لقد زادت المخاطر التي يتعرض لها الاقتصاد العالمي، وقد يؤدي تفاقم التوترات التجارية إلى مزيد من الضغط على النمو".
تقديرات قاتمة للاقتصاد
بحسب أرقام الصندوق، من المتوقع أن ينمو الاقتصاد الأمريكي بنسبة 1.8% خلال عام 2025، وهو ما يشكل تباطؤًا بمقدار نقطة مئوية كاملة مقارنة بمعدل النمو في عام 2024، كما تم تخفيض التقديرات السابقة التي نُشرت في يناير الماضي بمقدار 0.9 نقطة مئوية، وتشير التقديرات إلى أن نصف هذا التخفيض ناتج عن الرسوم الجمركية، فيما ساهم عدم اليقين السياسي في النصف الآخر.
أما بالنسبة للعام 2026، فتوقع الصندوق نمو الاقتصاد الأمريكي بنسبة 1.7%، بعد أن خفّض تقديراته مجددًا بمقدار 0.4 نقطة مئوية مقارنة بالتوقعات السابقة.
انعكاس مفاجئ
حسب موقع "أكسيوس" الأمريكي، فإن هذه التوقعات تُظهر تحوّلًا جذريًا في موقع الاقتصاد الأمريكي، الذي كان يُعتبر حتى وقت قريب الأكثر مرونة بين الاقتصادات الكبرى، ووفق صندوق النقد الدولي، فلم يشهد أي اقتصاد متقدم تخفيضًا في معدلات النمو بنفس القدر الذي شهدته الولايات المتحدة.
بالتوازي، توقع الصندوق ارتفاعًا حادًا في التضخم الأمريكي إلى 3% خلال هذا العام، وهو ما يزيد بنحو نقطة مئوية عن تقديرات يناير، في إشارة إلى ضغوط أسعار إضافية تُقوّض القدرة الشرائية وتقلّص هوامش التحفيز الاقتصادي.
لم تكن كندا والمكسيك في منأى عن هذه التداعيات، فقد خفّض صندوق النقد الدولي توقعات نمو الاقتصاد الكندي إلى 1.4%، أي أقل بـ0.6 نقطة مئوية من تقديرات يناير، أما المكسيك، فمن المتوقع أن تواجه ركودًا أعمق مما كان متصورًا في بداية العام.
وبشكل عام، يتوقع أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 2.8% فقط في عام 2025، انخفاضًا من معدل نمو بلغ 3.3% في عام 2024، وهو ما يؤكد أن التباطؤ بات يشمل دولًا عديدة حول العالم.
الصين على المسار الأبطأ
رغم الحوافز الحكومية المعلنة، خفّض الصندوق توقعاته لنمو الاقتصاد الصيني بنحو 0.6 نقطة مئوية، ليصل إلى 4%، وأشار إلى أن الرسوم الجمركية الأمريكية تؤدي إلى تراجع حاد في الطلب على المنتجات الصينية، ما يُعمّق الأزمة التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم.
وبحسب التقرير، فإن الضغط النزولي على التضخم يتفاقم، نتيجة انخفاض حجم المبادلات التجارية وتباطؤ الإنتاج في عدد من القطاعات الحيوية.
ورغم الحديث عن إمكانية "تجميد" بعض الرسوم الجمركية المتبادلة، أكّد صندوق النقد الدولي أن هذا التجميد حتى لو استمر إلى أجل غير مسمى لن يُحدِث فرقًا ملموسًا في المشهد الاقتصادي الكلي، لأن المعدلات الفعلية للتعريفات بين الولايات المتحدة والصين ما تزال مرتفعة.
وكتب جورينشاس في منشوره: "حتى لو استفادت بعض الدول من التخفيف الجزئي للتعريفات، فإن درجة عدم اليقين الناتجة عن السياسات التجارية تبقى مرتفعة ولم تنخفض بعد".
بديل منشود
أوضح التقرير أن السيناريو الأكثر تفاؤلًا، المتمثل في "تحرير التجارة"، من شأنه أن يرفع معدل النمو العالمي إلى 3.2% خلال عامي 2025 و2026، أي بزيادة طفيفة تبلغ 0.2 نقطة مئوية مقارنة بتوقعات يناير.
وأكد صندوق النقد الدولي في ختام تقريره أن النمو الاقتصادي العالمي قد يستعيد زخمه، إذا ما خفّفت الدول من سياساتها التجارية الحالية وتوصلت إلى اتفاقيات جديدة، قادرة على فتح الأسواق وتعزيز سلاسل التوريد العالمية.