الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

رسالة سلام مخبأة وسط حرب الرسوم.. آبل تجبر ترامب على التراجع

  • مشاركة :
post-title
آبل مثلت رسالة سلامة قدمتها واشنطن وسط الحرب التجارية

القاهرة الإخبارية - عبدالله علي عسكر

في لحظة من صباح السبت، وبينما كانت أسواق العالم نائمة على صفيح الحرب التجارية المشتعل بين الولايات المتحدة والصين، تسللت مذكرة جمركية أمريكية أشبه ما تكون برسالة سلام مخبأة تحت أوراق النار.

غصن الزيتون

رقمٌ مكوّن من 12 خانة "8517.13.00.00"، مرّ على أعين الكثيرين دون أن يُحرّك ساكنًا، لكنه في الحقيقة كان غصن الزيتون الذي مدّته واشنطن لشركة آبل، وربما لبكين أيضًا، في واحدة من أكثر التحولات السياسية والاقتصادية دراماتيكية في زمن الحرب التجارية.

بهذا الرمز الجمركي البسيط، وجّهت إدارة ترامب صفعة هادئة لمبدأ الرسوم الجمركية الصارمة الذي لطالما تغنّت به، معلنة (دون أن تعلن) أن هواتف آيفون لن تُعاقب بالتعريفة الجمركية البالغة 125%، في خطوة أربكت حتى أقرب المتشددين في البيت الأبيض.

إعفاءات غير معلنة

في مذكرة جمركية أمريكية تم تسريبها صباح أمس السبت، ظهر الرمز "8517.13.00.00" الذي يرمز إلى الهواتف الذكية، ضمن قائمة السلع المعفاة من الرسوم الجمركية المفروضة على الواردات الصينية، فلم يكن هذا مجرد استثناء تقني، بل قرار استراتيجي أعفى أكبر صادرات الصين إلى الولايات المتحدة من حيث القيمة في العام السابق وهي هواتف آيفون.

لم يكن هذا الإعفاء علنيًا في البداية، بل جاء كتراجع هادئ عن سياسة التشدد التي أعلنها وزير التجارة الأمريكي هوارد لوتنيك قبل أيام، حين صرّح أن فرض الرسوم يهدف إلى إعادة تصنيع آيفون داخل الولايات المتحدة، في المقابل، قررت الإدارة إعفاء هذه الأجهزة من الرسوم دون أن تعلن صراحةً عن ذلك، فيما يشبه محاولة خجولة لتجنب صدام اقتصادي أوسع.

سيناريو يقلب السوق

لو تم تطبيق التعريفة الجمركية بنسبة 125% على هواتف آيفون المصنعة في الصين، لكانت النتائج مدمرة، فوفقًا لشركة "كاونتربوينت" لأبحاث السوق، يتم تصنيع نحو 80% من أجهزة آيفون المخصصة للسوق الأمريكية في الصين. وكان من شأن ذلك أن يرفع سعر آيفون النموذجي إلى نحو 2000 دولار بدلًا من 1000 دولار، وهو ما قد يؤدي إلى تراجع المبيعات واحتجاج المستهلكين في الداخل الأمريكي.

وبالرغم من إمكانية توزيع التكاليف على الأسواق العالمية، فإن تقبّل العالم لدفع ضريبة "ترامب" كان ليصبح معضلة في حد ذاته، فالتعريفة لم تكن مجرد قرار اقتصادي، بل أداة ضغط سياسي، وكان تنفيذها الكامل سيجعل من آبل ضحية في حرب لا ناقة لها فيها.

تيم كوك الرئيس التنفيذي لشركة آبل
رجل الظل في المفاوضات

في هذا المشهد المعقد، يبرز تيم كوك، الرئيس التنفيذي لشركة آبل، كلاعب أساسي، الرجل الذي اختاره ستيف جوبز لخبرته في إدارة سلاسل الإمداد تحول إلى وسيط غير معلن في النزاع التجاري بين بكين وواشنطن، قدرته على الوصول إلى الرئيسين ترامب وشي جين بينج جعلت منه أحد مفاتيح الحل، وخاصة أن مصالح آبل متجذّرة في الاقتصادين معًا.

دور "كوك" لم يكن تقنيًا فقط، بل سياسيًا أيضًا، فهو يدير شركة تعتمد على الصين في التصنيع وعلى أمريكا في الاستهلاك، ما جعله رمزًا حيًا للتشابك الاقتصادي الذي يجعل من الحرب التجارية لعبة خاسرة للجميع.

في خلفية الأحداث، برزت مؤشرات على تغيير في موازين القوى داخل الإدارة الأمريكية نفسها. فبحسب تقارير أمريكية، تم تهميش المستشار التجاري المتشدد بيت نافارو لصالح وزير الخزانة سكوت بيسنت، المعروف بنهجه البراجماتي.

كان "نافارو" من أشد الداعين إلى فرض رسوم جمركية عقابية على الدول التي تملك فائضًا تجاريًا مع الولايات المتحدة، واعتبر ذلك "مجموع كل الغش"، لكنه اختفى فجأة من المشهد، في إشارة إلى تراجع عن فلسفته الاقتصادية لصالح مقاربة أكثر مرونة.

من التصعيد إلى فن الإلغاء

وبحسب تحليل شبكة "بي بي سي"، فإن الإدارة الأمريكية قد تكون انتقلت من سياسة "القبضة الحديدية" إلى سياسة "فنّ الإلغاء"، وهو مصطلح استخدمه بعض المحللين لوصف هذا التحول غير المتوقع.

فقد شملت الإعفاءات الجديدة ما يقرب من ربع الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة، وفق شركة "كابيتال إيكونوميكس"، إضافة إلى نسب ضخمة من صادرات دول مثل تايوان (64%) وماليزيا (44%) وفيتنام وتايلاند (30%).

هذا التوجه الجديد ينسف حسابات نافارو السابقة، ويمنح إعفاءات واسعة للدول ذات الفوائض التجارية الكبرى، بعد أن كانت أهدافًا مباشرة لسياسة الرسوم. ما بدا وكأنه خطة ممنهجة لمعاقبة "الناهبين"، تحوّل في غضون عشرة أيام إلى توزيع للمكافآت على من يملك فائضًا أكبر.

حلفاء تحت النار

في المقابل، تعاني دول حليفة مثل المملكة المتحدة من سياسة تعريفة غير مفهومة، فرغم أن بريطانيا تسجّل عجزًا تجاريًا مع الولايات المتحدة قدره 12 مليار دولار، فإنها تخضع لتعريفة جمركية بنسبة 25% على صادراتها من السيارات وهي سلعتها الأهم، إضافة إلى رسوم مشابهة على الأدوية.

هذا التناقض يثير تساؤلات حول منطقية الاستراتيجية التجارية الأمريكية، خاصة أنها باتت تفاوض اليوم ليس فقط خصومها، بل نفسها وأسواق السندات، في ظل قلق متزايد بشأن مستقبل الدين الأمريكي وارتفاع أسعار الفائدة.

سلام قد لا يدوم طويلًا

هذا السلام الجمركي قد لا يدوم طويلًا، ففي مقابلة مع موقع "أكسيوس" الأمريكي، قال وزير التجارة هوارد لوتنيك إن الهواتف الذكية والأجهزة الإلكترونية ستندرج قريبًا ضمن رسوم قطاع أشباه الموصلات، وأوضح أن هذه المنتجات، رغم إعفائها من الرسوم المتبادلة مع الصين، ستخضع لتعريفات خاصة تتعلق بالأمن القومي.

وأضاف أن تصنيع هذه المنتجات في الداخل الأمريكي أصبح "أولوية استراتيجية"، مشيرًا إلى أن الإجراءات الجديدة ستُعلن خلال شهر أو شهرين، بعد نشر إشعار رسمي في السجل الفيدرالي.

وأكد أن هذه الرسوم لا يمكن التفاوض بشأنها مع الدول الأخرى، إذ أنها تُصنّف ضمن فئة "الأمن القومي"، وهو ما يعيد إلى الأذهان المادة 232 من قانون توسيع التجارة لعام 1962، التي استخدمها ترامب سابقًا لفرض رسوم على الصلب والألمنيوم.

غموض مستمر

وفي حديث لشبكة "سي بي إس نيوز"، أوضح الممثل التجاري الأمريكي جيميسون جرير أن التحقيق لا يزال جاريًا بخصوص إمكانية فرض رسوم على أشباه الموصلات، مشيرًا إلى أن القرار النهائي لم يُتخذ بعد. لكن الإشارات الصادرة من الإدارة توحي بأن هذه التعريفات قادمة لا محالة، ما يضع علامات استفهام على مصير الإعفاءات الحالية، وعلى مستقبل العلاقة التجارية مع الصين وبقية العالم.

من إعفاء هواتف آيفون بهدوء، إلى التهديد بفرض تعريفات جديدة على أشباه الموصلات، يبدو أن إدارة ترامب تسير على حبل مشدود بين التراجع التكتيكي والتصعيد الاستراتيجي. ما بدأ كصفعة تجارية للصين، تحول إلى عملية جراحية معقدة لإعادة تشكيل سلاسل التوريد العالمية، دون أن تُسفك الكثير من الأرباح الأمريكية على مذبح السيادة الاقتصادية.