في دهاليز الحرب الممتدة شرق أوروبا حيث الحرب الروسية الأوكرانية التي دخلت عامها الرابع، تبرز لعبة سياسية جديدة معقدة تدور في الخفاء، لتعكس صراعًا لا يقتصر على البنادق والدبابات، بل يتعداه إلى دهاليز الجغرافيا السياسية وحسابات الحلفاء والخصوم.
وفي مشهد جديد على مسرح هذه الحرب، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عن احتجاز جنديين صينيين كانا يقاتلان في صفوف الجيش الروسي، في خطوة قد تكون أكثر من مجرد خبر أمني عابر، بل سلاحًا دبلوماسيًا يحاول من خلاله استمالة صقور واشنطن، لا سيما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وفي تحليل نشرته شبكة "فرانس 24" يسلط الضوء على هذا التطور الحساس وما يحمله من رسائل سياسية متشابكة.
أسر الجنود الصينيين
كشف الرئيس الأوكراني، الثلاثاء الماضي، عن أن قوات بلاده تحتجز اثنين من المواطنين الصينيين الذين تم القبض عليهما أثناء القتال ضمن صفوف القوات الروسية في منطقة دونيتسك، أحدهما ينحدر من مدينة تشنغتشو الواقعة في وسط الصين، على بُعد أكثر من 6600 كيلومتر من موقع الاشتباكات، حسب زيلينسكي.
تُعد هذه هي المرة الأولى منذ بدء الحرب في فبراير 2022، التي تعلن فيها كييف رسميًا عن وجود مواطنين صينيين على الجبهات الأوكرانية، ووفقًا للمعلومات التي صرح بها زيلينسكي، فإن هناك ما لا يقل عن 155 صينيًا يقاتلون ضد أوكرانيا إلى جانب الجيش الروسي.
بكين تنفي وكييف تصر
في أعقاب هذه التصريحات، نفت السلطات الصينية بشدة صحة هذه الادعاءات، ووصفتها بأنها "لا أساس لها من الصحة"، ومع ذلك، أعلنت بكين أنها بصدد التحقق من هذه المزاعم بالتعاون مع السلطات الأوكرانية.
وأكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، لين جيان، أن بلاده تطالب دومًا رعاياها بعدم الانخراط في صراعات مسلحة خارجية، وتدعو إلى احترام مبدأ الحياد، مؤكدًا: "الصين ليست سببًا في الأزمة الأوكرانية ولا طرفًا فيها، بل تؤيد الحل السلمي".
وفي المقابل، فضّل الكرملين عدم التعليق على تصريحات كييف، وقال المتحدث باسمه دميتري بيسكوف، إنه "لا يستطيع تقديم أي تعليق" بشأن هذه القضية.
مرتزقة لا جنود
بحسب السلطات الأوكرانية، فإن الجنديين المأسورين لا ينتميان على ما يبدو إلى جيش التحرير الشعبي الصيني، ما يثير التساؤل حول ما إذا كانوا مرتزقة مدفوعي الأجر أم متطوعين بدوافع شخصية.
الخبيرة ناتاشا كورت، من معهد كينجز كوليدج في لندن، رأت أن الدوافع المالية قد تكون هي السبب الأبرز، فأحد المقاتلين الصينيين، وفقًا لتقرير صحيفة "لوموند"، أكد أنه انضم إلى القتال بعد أن وعد براتب شهري يصل إلى 1900 يورو، كما أن صورة فلاديمير بوتين في الإعلام الصيني كرجل قوي قد تلعب دورًا في استقطاب بعض الأفراد.
لكن رغم ذلك، لا يُعتقد أن عدد هؤلاء المحاربين الصينيين كبير بما يكفي لتغيير مسار الحرب، فالتقديرات تشير إلى وجود ما بين 3 إلى 100 مقاتل صيني فقط في صفوف الروس، وفقًا لعدة مصادر تحدثت إلى "فرانس 24".
ورقة سياسية في لعبة خطرة
ما يجعل هذا التطور أكثر أهمية من مجرد حدث ميداني، هو السياق السياسي الذي يُستخدم فيه، فيقول ريهور نيزنيكاو، من المعهد الفنلندي للشؤون الدولية، إن زيلينسكي يحاول استثمار هذه الورقة لإعادة استمالة ترامب إلى جانب أوكرانيا، عبر الإيحاء بأن الحرب ضد روسيا باتت تشمل الصين أيضًا.
وتضيف ناتاشا كورت أن إعلان زيلينسكي بمثابة "غمزة دبلوماسية" إلى واشنطن، إذ يحاول الرئيس الأوكراني تصوير الحرب الجارية كجبهة مواجهة ضمن الصراع الأمريكي الصيني المتصاعد، خصوصًا في ظل التوترات التجارية والمواقف المتشددة في واشنطن تجاه بكين.
ويبدو أن زيلينسكي يسعى لصياغة رواية جديدة تستهدف تغيير مزاج الإدارة الأمريكية، مفادها أن الصين تُوظف روسيا كأداة لتنفيذ أجنداتها ضد الغرب، ورغم قلة أعداد المقاتلين الصينيين وعدم وجود روابط رسمية تربطهم بالحكومة الصينية، فإن مجرد الإيحاء بمثل هذه العلاقة قد يكون كافيًا للتأثير على توجهات بعض صقور الإدارة الأمريكية.
لكن هذا التوجه ليس بلا مخاطر، فيرى نيزنيكاو أن زيلينسكي قد يتمكن من توجيه انتقاد محدود للصين، لكنه لو بالغ في ذلك، فقد يؤدي إلى تأزيم العلاقات معها، وربما دفعها لاتخاذ موقف علني مؤيد لموسكو، وهو ما لا تريده كييف في هذه المرحلة الحرجة.