في عالم تُدار فيه المعارك خلف ستار من بيانات رسمية وابتسامات متحفظة، تتخذ الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين شكلاً جديدًا، أشبه بلعبة شطرنج يتحرك فيها كل طرف بحذر، وينتظر الآخر ليسقط أولًا.
وفي خضم هذا التوتر، يقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على عتبة حرب اقتصادية شرسة، مترقبًا مكالمة هاتفية من نظيره الصيني شي جين بينج، في وقت تُصر فيه بكين على شروطها، وتلوّح بردود قاسية إذا تمادت واشنطن في التصعيد، وحسب شبكة "سي إن إن" الأمريكية، فإن هناك كواليس من التجاذبات المحمومة بين القوتين الاقتصاديتين الأعظم في العالم.
ترامب يصعِّد.. والصين ترد
في الوقت الذي أعفى فيه ترامب معظم دول العالم من الرسوم الجمركية لمدة 90 يومًا، رفع الرسوم الجمركية على الصين إلى نسبة غير مسبوقة بلغت 145% على جميع السلع، ما أثار رد فعل فوري من بكين، برفع رسومها على السلع الأمريكية إلى 84%، بل وتجاوزت الردود الاقتصادية إلى إلحاق ضرر مباشر بالصناعات الأمريكية الإستراتيجية، مثل تقليص استيراد الأفلام من هوليوود.
وحسب شبكة "سي إن إن"، يتخذ الصدام التجاري الآن طابعًا شخصيًا، إذ رفض ترامب المبادرة بالتواصل مع الصين، مشددًا على أن على نظيره الصيني أن يتصل أولًا، وهذا الموقف أُبلغ للجانب الصيني منذ شهرين، لكن بكين رفضت مرارًا ترتيب مكالمة هاتفية على مستوى القادة، وفقًا لثلاثة مصادر مطلعة على طبيعة الاتصالات
كبرياء الزعماء
يرى مسؤولون أمريكيون أن الصين ترفض المبادرة خشية أن يظهر الرئيس شي بمظهر الضعيف أمام الرأي العام في بلاده، وفي المقابل عبّر ترامب عن ثقته بأن الصين "تريد صفقة"، لكنه اعتبر أن الصينيين "لا يعرفون كيف يتعاملون مع مثل هذه الأمور"، مؤكدًا خلال فعالية في البيت الأبيض أن بكين ستوافق في نهاية المطاف.
لكن الواقع يُظهر أن القنوات الرسمية على المستوى العالي مجمدة، فيما لم تسفر الجهود غير الرسمية عن نتائج، ما ينذر بتفاقم الأزمة وامتدادها إلى مجالات أوسع، بما في ذلك التقنية والأمن السيبراني.
وأوضح بعض المسؤولين الأمريكيين السابقين أن طريقة تعامل ترامب التجارية والفوضوية تصطدم بالبروتوكول الصيني الصارم، ما يعوق خلق مساحة مشتركة لإطلاق مفاوضات مثمرة، وعلى الرغم من محاولات الصين إيجاد قناة خلفية عبر مستشار الأمن القومي للرئيس بايدن، جيك سوليفان، إلا أن إدارة ترامب رفضت التعامل مع وزير الخارجية الصيني وانغج يي، باعتباره لا يمثل الدائرة المقربة من شي، ولا يتمتع بالثقة الكافية.
كما كشفت مصادر أن الصين حرصت على اقتراح بدائل، لكن واشنطن تمسكت بمواقفها، مشيرة إلى حادثة تحريف مكالمة بين وانج والسيناتور ماركو روبيو (وزير الخارجية الأمريكي الحالي)، والتي زعمت فيها بكين أن الأخير تلقى "تحذيرًا"، وهو ما نفاه روبيو تمامًا.
خطط بكين للتصعيد
رغم تصريحات بعض مسؤولي إدارة ترامب بأن الرئيس هو من سيقرر موعد بدء المحادثات، إلا أن الموقف الأمريكي يبدو واضحًا: الكرة الآن في ملعب الصين، لكن بكين ردت -عبر المتحدث باسم وزارة التجارة- بأن "باب المحادثات مفتوح، شرط أن تقوم على الاحترام المتبادل والمساواة"، محذرة من أن الضغوط والابتزازات لن تنجح مع الصين.
في المقابل، لجأت إدارة ترامب إلى إبرام صفقات تجارية مع دول آسيوية مثل اليابان وكوريا الجنوبية وفيتنام، بهدف عزل الصين وزيادة الضغط عليها.
ورغم تراجع الصين عن استهداف شركات أمريكية كبرى مثل "أبل" و"تسلا" و"ستاربكس"، خوفًا من ردود فعل المستهلكين المحليين، إلا أنها لا تزال تحتفظ بخيارات إستراتيجية للرد، منها التوجه إلى شراء المنتجات الزراعية من البرازيل بدلًا من الولايات المتحدة.
كما تدرس بكين أدوات تصعيد أكثر حساسية، منها حظر تصدير معادن نادرة ضرورية للصناعات التكنولوجية، أو حتى بيع كميات ضخمة من سندات الخزانة الأمريكية، وهي خطوة قد تهدد الاستقرار المالي العالمي.
قال مسؤول أمريكي سابق: "إذا قررت الصين خنق الاقتصاد الأمريكي بالكامل، فلن تعود هناك قيود"، معتبرًا أن حربًا تجارية بهذا الحجم قد ترقى إلى "عمل حربي".
سباق على النفوذ
فيما يعتقد المتشدد بيتر نافارو (كبير مستشاري الرئيس الأمريكي التجاريين) أن الصين لا تملك القدرة على التصعيد الكبير، يرى محللون آخرون أن الرئيس شي جين بينج يمتلك زمام المبادرة، بعد أن عزز نفوذه الداخلي، مما يمنحه مرونة أكبر لامتصاص الصدمات الاقتصادية.
ويؤكد داني راسل، نائب وزير الخارجية الأمريكي السابق، أن بكين تخشى تكرار سيناريو إحراج الزعماء، كما حدث مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في المكتب البيضاوي، ولهذا تصر على تمهيد الطريق ووضع قواعد أساسية قبل أي لقاء.
كشفت "سي إن إن" عن محاولات صينية سابقة لفتح قناة خلفية مع ترامب عبر رجل الأعمال إيلون ماسك، الذي يتمتع بعلاقات استثنائية في الصين ونفوذ داخل إدارة ترامب، لكن هذه المحاولة رغم رمزيتها لم تُحدِث اختراقًا حقيقيًا في جدار الجمود.
ورغم العلاقات الوثيقة التي جمعت ترامب وشي في بداية ولاية الرئيس الأمريكي الأولى، بما في ذلك زيارات رسمية متبادلة، إلا أن هذه العلاقة شابها التوتر لاحقًا، مع اتهام ترامب لبكين بعدم الالتزام باتفاقات الشراء، وتذرعها بجائحة كورونا.
بعد عودته إلى البيت الأبيض، طرح ترامب فكرة "اتفاق شامل" يتجاوز التجارة ليشمل الأمن والتكنولوجيا والاستثمارات، لكن تلك الخطط قُوبلت بتشكك من مستشاريه الأمنيين، الذين يعارضون زيادة الاستثمارات الصينية في الداخل الأمريكي.
ملفات على طاولة الغضب
منذ بداية ولايته، أبدى ترامب اهتمامًا خاصًا بوقف تصدير الفنتانيل من الصين إلى الولايات المتحدة، معتبرًا ذلك تهديدًا للصحة الوطنية، لكن رغم محادثات متعددة، ظلت الاستجابة الصينية محدودة، وإن قدمت بكين مؤخرًا عرضًا أكثر جدية في هذا الملف.
وفي ظل الضغوط الأمريكية بشأن "تيك توك"، الذي ترى فيه إدارة ترامب تهديدًا أمنيًا، تبحث بكين عن صفقة متكاملة، توازن بين الامتيازات الاقتصادية والاعتبارات السيادية.