مع تناقص عدد الأشخاص الذين يختارون تكوين أسرة، نرى أن عدد الزيجات والمواليد آخذ في الانخفاض حول العالم. وفي الولايات المتحدة -وهي واحدة من أكبر الدول- بلغ معدل الخصوبة أدنى مستوى له على الإطلاق، حيث بلغ 1.7 ولادة لكل امرأة، أي أقل من 2.1 ولادة اللازمة للحفاظ على استقرار عدد السكان في البلاد.
ورغم محاولة العديد من الدول معالجة هذا الأمر من خلال التحفيز على الإنجاب، لكن يبدو أن المشكلة أعمق مع ارتفاع كبير في عدد الأشخاص الذين يختارون البقاء عازبين.
وفقا لتقرير مجلة "نيوزويك"، في عام 2023، بلغ عدد الأسر المكونة من شخص واحد في الولايات المتحدة ذروته عند 38.1 مليون، وهو رقم قياسي في ذلك الوقت.
بالإضافة إلى ذلك، كشفت بيانات من مركز "بيو" للأبحاث أن 42% من البالغين كانوا غير مرتبطين في عام 2023، وكانت النساء أكثر عرضة من الرجال لأن يكونوا عازبين.
وفي عام 2024، ارتفع عدد الأسر المكونة من شخص واحد إلى 38.5 مليون أي 29% من جميع الأسر الأمريكية.
جائحة العزاب
تنقل "نيوزويك" عن روبرت فيربروجن، الباحث في معهد مانهاتن ومعهد دراسات الأسرة إن "حياة العزوبية أصبحت -ببساطة- أكثر جدوى وجاذبية" للأجيال الشابة، مشيرًا إلى أن هذا التحول الثقافي ناتج عن اتساع خيارات الناس، مما يسمح لجيل الألفية وجيل "زد" بالشعور بثقة أكبر في اتباع مسارهم الخاص، بدلاً من المسار الذي قد يشعرون أنه مُحدد لهم.
ويُعد انخفاض معدلات المواليد أحد أعراض ما يُسمى بـ "ركود العلاقات"، ما يؤدي إلى "جائحة العزاب" كما ظهر المصطلح على غلاف العدد الجديد من المجلة.
ومن أهم أسباب ازدياد العزوبية هو جاذبيتها، حيث يرى كثيرون أن العازبين مثالٌ للشباب والبهجة "فلماذا نتخلى عن ذلك من أجل الزواج وإنجاب الأطفال؟"
كما يلفت التقرير إلى أنه "لفترة طويلة، اعتُبر الزواج ضمانًا للنساء، إذ كنّ يعتمدن على الرجال في الدخل والاستقرار. أما الآن، بدأ النساء يشققن طريقهن الخاص ويعتمدن على أنفسهن. يمكن للمرأة أن تتمتع باستقرار مالي أكبر بكثير بمفردها مما كانت عليه في السابق. حتى بين الأزواج، تتغير التنازلات المرتبطة بإنجاب الأطفال عندما يحصل كلا الشريكين على فرص عمل جيدة".
أيضًا، يساهم ارتفاع مستوى المعيشة والتكنولوجيا الحديثة في جعل حياة العزوبية تبدو أكثر جاذبية. بعض الرجال تأخروا اقتصاديًا، بل وانسحبوا من سوق العمل، مما جعلهم أقل جاذبية وأهلية للزواج في نظر الزوجات المحتملات.
وأظهرت دراسات متعددة أجريت على مدى العقد الماضي، أن الرجال الفقراء والطبقة العاملة في الولايات المتحدة هم "الأقل احتمالا" من بين أي مجموعة أن يتزوجوا والأكثر احتمالًا أن يكونوا عازبين.
عالم رقمي
بينما تُتيح لنا التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي عالمًا واسعًا بين أيدينا، إلا أنها قد تُعيقنا أيضًا عن العالم الحقيقي. ويتفق العديد من الباحثين على أنها تلعب دورًا محوريًا في صعوبة بناء العلاقات في عالمنا المعاصر.
ينقل التقرير عن فيربروجن إن الإنترنت أثّر سلبًا على الحياة الاجتماعية للشباب بتغييره طريقة تفاعلهم "لم يعودوا بحاجة للخروج ورؤية الأصدقاء للبقاء على تواصل. بل أصبحوا يتواصلون عبر إرسال الميمات ومقاطع إنستجرام القصيرة، التي أصبحت لغة الحب الحديثة".
أيضًا، هناك عامل آخر يتمثل في زواج الشباب، وفقًا لكينت بوسمان، أستاذ علم الاجتماع بجامعة "ماريفيل". إذ يُثقل كاهل الخريجين الأمريكيين ديون الدراسة وتدني الأجور، وغالبًا ما يعودون للعيش مع والديهم.
وأشار بوسمان إلى أن الناس يؤجلون الزواج لأنهم لم يعودوا يدخلون مرحلة الرشد في أوائل العشرينيات من عمرهم "يستغرق الشباب وقتًا أطول ليجدوا موطئ قدم لهم في الحياة. وبالنسبة للكثيرين، تُعتبر العلاقات العاطفية آخر ما يفكرون فيه".
ومن العوامل الأخرى التي تُسهم في زيادة العزوبية الاعتماد المتزايد على الأجهزة الإلكترونية، مما يُسبب الانقطاع المتزايد عن الحياة، كما تابع بوسمان "في نهاية المطاف، أعاد الشباب تصوّر ما يعتبرونه حياةً مُرضية. إن الحلم التقليدي بتكوين أسرة لم يعد الخيار المُعتاد".
تداعيات انخفاض المواليد
يخشى الأمريكيون أن انخفاض معدلات الخصوبة عن مستوى الإحلال السكاني البالغ 2.1 ولادة لكل امرأة قد يؤدي إلى انكماش عدد السكان. لكن هذا لا يقتصر على الولايات المتحدة فقط، فقد سجلت المملكة المتحدة أيضًا أدنى معدل خصوبة لها في عام 2023، بمعدل 1.4 ولادة لكل امرأة؛ ووُصفت إيطاليا بأنها تعيش "حالة طوارئ وطنية" بمعدل خصوبة حالي يبلغ 1.1؛ ووصلت إسبانيا إلى أدنى معدل مواليد لها منذ عام 1941 بمعدل 1.2 طفل لكل امرأة، وفقًا لأحدث التقارير.
ولا يقتصر الأمر على الغرب فحسب. فمع معدل 0.75 ولادة لكل امرأة، تُسجّل كوريا الجنوبية أدنى معدل خصوبة في العالم. ويشهد عدد سكان اليابان انخفاضًا مستمرًا منذ 15 عامًا، وهناك مخاوف من أن البلاد قد تُنجب طفلها الأخير خلال 695 عامًا. وقد حذّرت وزارة الخارجية اليابانية من أن أمام اليابان مهلة حتى عام 2030 تقريبًا قبل أن يصبح هذا الاتجاه لا رجعة فيه.
أما بالنسبة لمعدل المواليد في الصين، فقد انخفض بشكل مطرد لمدة سبع سنوات قبل أن يشهد ارتفاعًا طفيفًا في عام 2024. ورغم هذا التحسن، لم تُسجل البلاد سوى 6.1 مليون حالة زواج العام الماضي - بانخفاض قدره 20.5% عن عام 2023- مما أثار دعوات لخفض سن الزواج القانوني المحدد حاليًا بـ 22 عامًا للرجال 20 عامًا للنساء.
ويلفت التقرير إلى أنه من الآثار طويلة المدى لوجود عدد كبير من العزاب، الضغط الكبير على القوى العاملة وأنظمة الرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية. فشيخوخة السكان تُلقي بأعباء إضافية على المجتمع، نظرًا لانخفاض عدد القوى العاملة القادرة على دعم عدد الذين يحصلون على معاشات تقاعدية من الدولة.
ووفق ريتشارد فراي، الخبير الاقتصادي في مركز "بيو" للأبحاث، فإن هذا قد يكون له آثار كبيرة على سوق الإسكان "فمع ازدياد عدد العزاب، يزداد الطلب على السكن، ويتغير نوع الوحدات السكنية المرغوبة".
وقال: "الأسر التي تعيش بمفردها ليست بنفس ثراء الأسر التي تعيش مع شريك، فهم يميلون إلى امتلاك دخل وثروة أقل. لذا، لا يستطيع العزاب تحمل تكاليف السكن الذي توفره الأسر التي تعيش مع شريك".