من قلب الدخان والركام، من داخل دبابة اجتازت حدود المعركة، يخرج صوت شاب إسرائيلي برواية مختلفة عن تلك التي يروّج لها الإعلام الرسمي لدولة الاحتلال الإسرائيلي، رواية لا تحتفل بالنصر، بل تئنّ من وجع الحقيقة.
الرقيب إيتامار شوارتز، الذي خاض الحرب البرية في قطاع غزة، لا يتحدث اليوم عن بطولة أو مجد، بل عن هشاشة الإنسان في مواجهة آلة الحرب، عن انهيار حلم بناه على أعمدة القيم الصهيونية، ليكتشف أنه كان وهمًا منظمًا، وأن الواقع الذي رآه عارٍ من كل شعارات الطهر الأخلاقي.
قنبلة أخلاقية
في شهادة شخصية نشرها موقع "هماكوم هاخي حام بجهينوم" الإسرائيلي، يفجّر شوارتز قنبلة أخلاقية، يضع فيها تجاربه الميدانية، وألمه النفسي، وصراخه الداخلي أمام صانعي القرار والمجتمع الإسرائيلي بأكمله، مطالبًا بوقف المجزرة في غزة، والسير نحو مستقبل مشترك مع الفلسطينيين.
وحسب الموقع الإسرائيلي، بدأت صورة "الجيش الإسرائيلي الأخلاقي" أمام "إيتامار شوارتز" تتصدع تدريجيًا بعد التحاقه بهذا الجيش، والذي أصبح سائق دبابة في كتيبة مدرعة، وخاض معارك عنيفة داخل قطاع غزة، بدأت في 27 أكتوبر، ضمن العملية البرية الواسعة التي أطلقتها إسرائيل بعد أحداث السابع من أكتوبر.
وخلال الأسبوع الثالث من المعركة، أصاب صاروخ مضاد للدبابات المركبة التي كان يستقلها شوارتز، ما أدى إلى مقتل قائد فصيلته وإصابة أحد الجنود بجروح خطيرة. هذا الحدث، إلى جانب مشاهد الموت اليومية، كان كفيلًا بتحطيم التوازن النفسي لشوارتز، الذي شُخّص لاحقًا باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD).
ورغم ذلك، ظل مؤمنًا بعدالة الحرب، ومقتنعًا بأن هدف الجيش هو تحرير المحتجزين الإسرائيليين وإنهاء تهديد حماس، غير أن هذه القناعة بدأت بالتآكل مع مرور الوقت، وتحديدًا بعد خروجه في يناير 2024 لتلقي العلاج النفسي.
شهادات مرعبة
بحسب ما رواه شوارتز، بدأت مرحلة التغير الحقيقي في وعيه خلال شهر مارس من نفس العام. آنذاك، بدأ يفكك مشاهداته في غزة، ويضعها في سياق أوسع من الصدمة الآنية، فقد أصبح يرى بأمّ عينيه كيف يتم التعامل مع المعتقلين الفلسطينيين، وكيف تُمارس الانتهاكات من دون محاسبة.
يروي في شهادته قائلاً: "صديق لي يتحدث مازحًا عن عدد الفلسطينيين الذين قتلهم، آخر يحكي عن قائد سرية أطلق النار على رأس معتقل لأنه بصق عليه، وثالث يتحدث عن شاحنة محملة بالمعتقلين صعد عليها فقط ليضرب أحدهم".
يرى شوارتز أن هذا السلوك ليس فرديًا، بل ناتج عن ثقافة ترسخت في المجتمع الإسرائيلي، تُقدّس القوة وتُشيطن الآخر، فقد تربّى على أن "كل العرب إرهابيون، أو سيكونون كذلك في المستقبل"، وأن "قتل العربي واجب وطني"، وهي أفكار لم يشكك فيها إلا بعد أن شهد بنفسه العنف العشوائي الذي مارسته وحدته.
إسرائيل تقترب من نهايتها
في الجزء الأشد جرأة من مقاله، يستخدم شوارتز مصطلح "التطهير العرقي" لوصف ما تفعله إسرائيل في غزة، يقول صراحة: "تمارس إسرائيل التطهير العرقي في غزة، وحتى نتوقف، ونطلب المغفرة من الشعب الفلسطيني، ونساعده على التعافي، فإن أيام إسرائيل تقترب من نهايتها".
"إسرائيل تقترب من نهايتها"، هذه الجملة، لو نُشرت في صحيفة إسرائيلية تقليدية، لربما أدت إلى فتح تحقيق عسكري مع كاتبها، لكنها اليوم منشورة على موقع "هماكوم هاخي حام بجهينوم"، الذي يشتهر بنشر شهادات الجنود والناشطين المناهضين للاحتلال، وتمنحهم مساحة للتعبير عن الألم، الندم، والغضب.
انحراف إسرائيلي
يقول "شوارتز"، إن الجيش الإسرائيلي دخل غزة بمبررات تحرير المحتجزين، لكن مع مرور الوقت، انحرفت الأهداف، وبدأ الجنود يتعاملون مع كل شيء في غزة كعدو، "كل من نراه هو إرهابي"، هكذا قيل لهم، بينما الحقيقة كانت مختلفة.
ويضيف أن الأوامر في الميدان كانت تشجع على التعامل العنيف، وتغذي ثقافة الانتقام، بل و"اللذة في العنف" أحيانًا.
في ختام شهادته، يقدّم شوارتز رسالة موجّهة للسياسيين وصنّاع القرار، بل وللمجتمع الإسرائيلي ككل: "يجب أن تنتهي المذبحة في غزة، يجب أن يعود المحتجزون، يجب أن نأمل في مستقبل مشترك مع الفلسطينيين، لأننا ببساطة لن نذهب إلى أي مكان، وهم أيضًا لن يذهبوا إلى أي مكان".
فقاعة الطهر الأخلاقي
شهادة شوارتز ليست الأولى، لكنها من أكثر الشهادات حدة، وهي تنضم إلى سلسلة من الاعترافات التي بدأت تتسرب من داخل صفوف الجيش الإسرائيلي، وتكسر صورة "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم"، التي لطالما استخدمتها إسرائيل في دعايتها.
بعض المحللين يرون أن هذه الشهادات قد تعكس تحولًا في وعي بعض الجنود، لا سيما بعد معايشتهم لحربٍ طويلة، دموية، ومفتوحة على المجهول، ويخشى البعض أن يتحول هذا الوعي إلى أزمة داخلية أكبر، في حال قررت إسرائيل تجاهله أو قمعه.