منذ تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، 20 يناير 2025، أصاب الاقتصاد الأمريكي، بل الاقتصاد العالمي أجمع، عدد من الصدمات السريعة والمؤثرة، ولم يكن الدولار بمعزل عنها، إذ يتعرض لضغوط، بسبب السياسات التجارية لإدارة ترامب، وهو ما جعل العديد من المُضاربين في سوق العملات يتوقعون هبوطًا في قيمة الدولار، خلال الفترات المقبلة، ما سيكون له آثار كبيرة على الداخل الأمريكي، واقتصاديات الدول المختلفة.
وتأسيسًا على ما سبق يتطرق هذا التحليل إلى وضع سوق الدولار الأمريكي، مع التعرف على الآثار الاقتصادية لاحتمالية هبوطه.
وضع السوق
يشهد سوق الدولار الأمريكي تطورات كبيرة في الوقت الحالي، يُمكن توضيحها على النحو التالي:
(-) انخفاض مؤشر الدولار الأمريكي: يُقصد بهذا المؤشر قيمة الدولار أمام سلة من أكبر 6 عملات هي اليورو، الين الياباني، الجنيه الإسترليني، الدولار الكندي، الفرنك السويسري، والكرونة السويدية، باعتبارها أهم الشركاء التجاريين مع الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي ارتفاع أو انخفاض هذا المؤشر يعكس القوة النسبية للدولار الأمريكي.
ومن الشكل (1) يتضح أن قيمة هذا المؤشر قبل تنصيب ترامب وفي بداية تنصيبه كانت مرتفعة، إذ سجل 107.8، 22 ديسمبر 2024، و108.1، 22 يناير 2025، لكنه انخفض إلى 106.64، 21 فبراير، وإلى 104.15، 21 مارس، وهو الأمر الذي يوضح الصدمة التي يتعرض لها سوق الدولار الأمريكي في الوقت الراهن.
(-) انخفاض المُضاربات: تعتمد قرارات المُضاربين في العملات المختلفة على توقعاتهم المستقبلية لقيمتها، وفي سوق الدولار الأمريكي تأثر المُضاربون بسياسات ترامب حول إعادة هيكلة النظام التجاري العالمي، وتوقعوا هبوطًا إضافيًا في قيمة الدولار الأمريكي، إذ بلغ صافي شراء إجمالي العقود الآجلة غير التجارية لمؤشر الدولار الأمريكي، التي يتداولها كبار المُضاربين وصناديق التحوط نحو 7188 عقدًا في البيانات الواردة حتى 18 مارس 2025، بانخفاض عن 9647 عقدًا في الأسبوع السابق لهذا التاريخ.
وفي الإطار ذاته، تحول المضاربون في سوق العملات، الذي يبلغ حجم تداولاته 7.5 تريليون دولار، إلى متشائمين بشأن الدولار الأمريكي، ووفقًا لبيانات لجنة تداول السلع الأجلة للأسبوع المُنتهي 18 مارس، جمع مديرو الأصول وصناديق التحوط، رهانات بقيمة 932 مليون دولار على ضعف العملة الأمريكية، وهو ما يُعد تراجعًا حادًا عن منتصف يناير الماضي، عندما راهن المتداولون على ارتفاع قيمة الدولار بقيمة 34 مليار دولار.
(-) انخفاض حصة الدولار في الاحتياطيات العالمية: بيّن أحدث مسح أجراه صندوق النقد الدولي، انخفاض حصة حيازات الدولار الأمريكي في الاحتياطيات المخصصة إلى 57.4 %، بالمُقارنة بـ58.22% في الربع الأول من عام 2024.
وعلى هذا الأساس ذهبت التوقعات إلى أن يفقد الدولار 10% أخرى من حصته في احتياطيات النقد الأجنبي العالمي على مدار العقد المُقبل، مع استفادة 10 عملات مختلفة من هذا الانخفاض، إذ إنه من المتوقع استمرار العملات الأخرى مثل الين الياباني والجنيه الإسترليني والدولار الأسترالي والدولار الكندي والفرنك السويسري في النمو مع انخفاض حصة الدولار الأمريكي.
سياق دافع
يرجع الاتجاه الهبوطي للدولار الأمريكي إلى العديد من العوامل، التي يمكن توضيحها على النحو التالي:
(-) ركود أمريكي مُحتمل: اتجهت التوقعات إلى احتمالية اتجاه الاقتصاد الأمريكي إلى حالة من الركود، فالاحتياطي الفيدرالي خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد وسط رسوم ترامب التجارية، مع رفع توقعاته للتضخم إلى 2.7%، عام 2025، إذ أشار جيروم باول، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، إلى أن هناك حالة كبيرة من عدم اليقين تسود الاقتصاد الأمريكي، وهو ما يؤثر على قرارات المستثمرين، ومن ثم على طلبهم على الدولار الأمريكي.
وفي هذا الإطار؛ جاءت توقعات مجلس المؤتمرات للاقتصاد الأمريكي، لتؤيد التراجع في النمو الاقتصادي خلال عام 2025، كما يوضح الشكل (2)، إذ تذهب إلى أنه من المُحتمل أن يُسجل 1.8% في الربع الأول من عام 2025، لكنه من المتوقع أن ينخفض إلى 1.3% في الربع الثالث، بالمُقارنة بـ3.1% في الربع الثالث من العام السابق، على أن يرتفع قليلًا في الربع الرابع إلى 1.4%، بالمُقارنة بـ2.3 % في نفس الربع من العام السابق.
(-) أهداف تجارية وإنتاجية: تذهب الاحتمالات المختلفة إلى أنه سيكون هناك تخفيض مُحتمل في قيمة الدولار الأمريكي يُحقق أهداف ترامب التجارية والإنتاجية، ففي الإنتاج والتصنيع، أوضح ترامب قبل فوزه بالانتخابات، أنه يعتقد أن قوة الدولار مقابل الين الياباني واليوان الصيني كانت عبثًا هائلًا على الصناعة الأمريكية وعائقًا أمام تحول أمريكا إلى اقتصاد إنتاجي.
ومن الناحية التجارية فهدف واشنطن في إعادة هيكلة النظام التجاري العالمي وإبرام صفقات تجارية ضخمة متعددة الجنسيات، سيتحقق من إضعاف الدولار عمدًا، حتى يستطيع المصدرون الأمريكيون منافسة الصين واليابان، فقوة الدولار تضعف القدرة التنافسية الأمريكية بجعل الواردات أرخص نسبيًا.
(-) ارتفاع العجز الأمريكي: شهدت الولايات المتحدة الأمريكية ارتفاعًا كبيرًا في قيمة العجز كما يوضح الشكل (3)، إذ قفز من 1.38 تريليون دولار، عام 2022 إلى 1.83 تريليون دولار، عام 2024، وهو الأمر الذي يرجع إلى أن الواردات الأمريكية تعتبر أرخص نسبيًا من الصادرات، بسبب قوة الدولار الأمريكي، وهو الأمر الذي دفع ترامب إلى اتخاذ قرارات فرض الرسوم الجمركية؛ لرفع تكلفة الواردات ودحض القوة التصديرية للصين وغيرها من الدول الأوروبية.
انعكاسات مُحتملة
الانخفاض في قيمة الدولار الأمريكي يحمل العديد من الانعكاسات، التي تتمثل في الآتي:
(-) تضرر الاقتصاد الأمريكي: يتسبب ضعف الدولار في رفع تكلفة الواردات الأمريكية، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم، ومن ناحية أخرى ستنخفض العوائد على الأصول الأمريكية، ما سيدفع المستثمرون إلى تحويل بعض تدفقاتهم إلى العملات المُنافسة مثل الين أو اليورو، وإلى الأسواق الأخرى، إذ اشترى مديرو الأموال ما يزيد على 700 مليون دولار من الأسهم في الدول النامية الآسيوية خارج الصين.
(-) انتعاش سوق الذهب: يرتبط سعر الذهب عكسيًا بوضع الدولار، فانخفاضه يترتب عليه ارتفاع سعر الذهب، لأن تسعير الذهب يتم بالدولار، ومن ناحية أخرى انخفاض سعر الدولار يؤثر سلبًا على الأسواق المالية بفعل انخفاض الاستثمارات الأجنبية في الأسهم والسندات الأمريكية، ما يُعزز الطلب الاستثماري على الذهب باعتباره الملاذ الآمن.
ومن هنا انتعش سوق الذهب بشكل كبير كما يوضح الشكل (4)، إذ ارتفع سعر أوقية الذهب من 2708.89 دولار، 20 يناير 2025 إلى 3025.38 دولار، 23 مارس، إذ تُسهم المخاوف المُتزايدة بشأن النمو الاقتصادي وارتفاع مخاطر التضخم، التي ستنتج من الرسوم الجمركية التي يعتزم ترامب فرضها، من تعزيز الطلب الاستثماري القوي على الذهب، وهو ما جعل وحدة الأبحاث التابعة لمجموعة سيتي بنك، ترفع توقعاتها لأسعار الذهب خلال عام 2025، بأن تصل إلى 3500 دولار في نهايته.
(-) انخفاض سعر النفط: تُعاني أسواق النفط ظاهرة "الدولرة" بما يُعرف بـ"البتر ودولار"، وهو الأمر الذي يُشير إلى علاقة طردية بين سعر النفط وقيمة الدولار، وهو ما نُلاحظه في سوق النفط حاليًا، إذ انخفضت العقود الآجلة لخام برنت إلى نحو 72 دولارًا للبرميل، الاثنين 24 مارس، مع انخفاض مؤشر الدولار الأمريكي.
وتأثرت معنويات السوق سلبًا من المخاوف بشأن الرسوم التجارية، التي من المُقرر أن تدخل حيز التنفيذ، 2 أبريل المُقبل، الأمر الذي يُثير مخاوف من حرب تجارية عالمية، قد تؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي والحد من الطلب على الطاقة، الأمر الذي يؤثر على ديناميكيات سوق النفط.
(-) تأثُر الدول النامية: يعتمد تأثُر الدول النامية بانخفاض قيمة الدولار الأمريكي على مدى اعتمادها على التجارة العالمية، ومستوى ديونها بالدولار، وقدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية.
وعلى هذا النحو ينقسم هذا التأثير إلى تأثير إيجابي وآخر سلبي، فالإيجابي يتضمن انخفاض تكلفة خدمة الديون إذا لم يقم الفيدرالي برفع أسعار الفائدة، فالعديد من الدول النامية تعتمد على الديون المقومة بالدولار، وبالتالي مع انخفاض قيمته، ستكون خدمة الدين أرخص.
ومن ناحية أخرى، ستستفيد الدول النامية من تحسُن أسعار السلع الأساسية، إذ إن انخفاض الدولار يترتب عليه انخفاض أسعار النفط والمعادن المقومة بالدولار، وبالتالي ستكون أرخص بالنسبة للدول النامية المستوردة لها، وهو الأمر الذي يترتب عليه انخفاض تكلفة الواردات على الدول النامية، ما يُحسن ميزان المدفوعات، إضافة إلى ذلك سيترتب على ضعف الدولار تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى الدول النامية بحثًا عن عوائد أعلى، ما يُعزز النمو الاقتصادي.
أما التأثير السلبي فيتمثل في تقلبات الاستثمارات الأجنبية، فعلى الرغم من أن انخفاض الدولار قد يجذب الاستثمارات إلى الأسواق الناشئة، إلا أنه يجعل هذه الاستثمارات أكثر تقلبًا وعرضة للانسحاب السريع عند تغير السياسة النقدية، كما أنه إذا انخفض الدولار مع رفع سعر الفائدة من قبل الفيدرالي، ستزداد تكلفة الاقتراض الجديد للدول النامية.
سيناريوهان مُحتملان
يُمكن توقع اتجاهات ترامب نحو الدولار الأمريكي من خلال النقاط التالية:
(-) انخفاض تدريجي في قيمة الدولار: ينطلق هذا السيناريو من أن التحليلات تتوافق مع رؤية ترامب، بأن الدولار مُبالغ في تقييم قيمته، التي تحتاج إلى تعديل، فترامب يرى أن قوة الدولار الأمريكي هي السبب في العجز التجاري والعائق الكبير أمام الثورة الصناعية بالولايات المتحدة الأمريكية، وعلى هذا الأساس توقع البنك الدولي في أحدث تقرير له أن الدولار سيشهد انخفاضًا تدريجيًا يبدأ ربيع 2025.
وعلى هذا الأساس من المُحتمل أن يتم التوصل إلى اتفاق متعدد الأطراف، يهدف إلى إضعاف الدولار عمدًا على غرار "اتفاق بلازا"، الذي تم في عام 1985 بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا واليابان والمملكة المتحدة وألمانيا الغربية "آنذاك"، لإضعاف الدولار مقابل عملاتها.
(-) الحفاظ على قوة الدولار: يُعتبر هذا السيناريو الأقل ترجيحًا خلال الفترة المقبلة، لكنه لم يكن مستبعدًا، فمن المحتمل أن يعمل ترامب على استخدام سلاح التعريفات الجمركية، لتعزيز قيمة الدولار، بجانب إصدار سندات حكومية ذات عوائد مرتفعة لجذب المستثمرين.
وفي النهاية يُمكن القول إن الدولار الأمريكي بدأ ينتزع التهافت العالمي عليه، فالدول المختلفة اتجهت إلى تخفيض حصته في احتياطاتها النقدية، كما أن الاستثمارات في الأصول الأجنبية انجذبت إلى أسواق أخرى ذات عائد أعلى، وهو الأمر الذي زاد من حدته سياسات ترامب في التجارة الخارجية، ما يعكس أهمية القرارات التجارية في تحديد مسار العملات والأسواق المالية.