تشهد سوق العملات المُشفرة في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اهتمامًا متزايدًا، خاصة عملة البتكوين، التي أصبحت لها ثقل كبير في النظام العالمي بتسجيلها قيمًا مرتفعة في العديد من الأوقات، وهو ما دفع المستثمرين إلى المضاربة فيها، ولكنها تتصف بخاصية "التقلب الشديد"، وهو الأمر الذي يتطلب البحث في سوق هذه العملات والتعرف على مستجداته في الوقت الراهن والفترات المقبلة.
ومن الجدير بالذكر هنا أن ترامب وقع أمرًا تنفيذيًا في 23 يناير؛ لدعم القيادة الأمريكية في التكنولوجيا المالية الرقمية، وتأسيس الوضوح التنظيمي لها، وينشأ عن هذا الأمر مجموعة عمل رئاسية معنية بأسواق الأصول الرقمية، وتطوير إطار تنظيمي فيدرالي يحكمها.
ماهية السوق
يُمكن التعرف على أبعاد سوق العملات المُشفرة من خلال النقاط التالية:
(-) تذبذب القيمة السوقية: يُعرف عن تاريخ عملة البتكوين أنها من الأكثر تقلبًا بين الأصول المالية المختلفة، فكما يوضح الشكل (1) شهدت القيمة السوقية لها ارتفاعًا كبيرًا في معظم السنوات، ولكنها سجلت انخفاضًا في سنوات أخرى، إذ ارتفعت من 15.49 مليار دولار في ديسمبر 2016 إلى 237.47 مليار دولار في ديسمبر 2017، ولكنها انخفضت إلى 65.33 مليار دولار في ديسمبر 2018، وهو العام الذي عُرف بعام خسائر البتكوين؛ بسبب التحذيرات المختلفة من قبل البنوك المركزية من التعامل بالعملات الافتراضية.
وبعد هذا العام بدأت القيمة السوقية للبتكوين في ارتفاع، حتى سجلت 875.94 مليار دولار في ديسمبر 2021، قبل أن تسجل انخفاضًا إلى 318.52 مليار دولار في ديسمبر 2022؛ بسبب ارتفاع سعر الفائدة الفيدرالية بمعدل 7 مرات خلال هذا العام، وبسبب أيضًا فك ارتباط عملة تيرا مع الدولار الأمريكي، وهو ما خفض قيمة العملة المُشفرة المصاحبة "لونا" التي تم إطلاقها في عام 2019، وهو ما انعكس على انخفاض القيمة السوقية للبتكوين.
وفي عامي 2023 و2024، انتعشت القيمة السوقية للبتكوين، إذ سجلت 827.81 مليار دولار في ديسمبر 2023، و1.85 تريليون دولار في ديسمبر 2024، وهو الأمر الذي يرجع إلى تدابير البنوك المركزية بضخ سيولة مالية في الأسواق.
وفي بداية فترة رئاسة ترامب الثانية قفزت القيمة السوقية للبتكوين، فمن الشكل (2) يتضح أن عملة البتكوين، ارتفعت في يناير 2025 إلى 2.02 تريليون دولار، ولكنها في نهاية فبراير انخفضت إلى 1.67 تريليون دولار، أي انخفضت بنسبة 17.33%، ثم ارتفعت نسبيًا في 2 مارس إلى 1.87 تريليون دولار، ثم ارتفعت بشكل كبير في 9 مارس، إذ سجلت 2.81 تريليون دولار.
(-) ارتفاع المخاطرة: يتضح من الشكل (3) أن العملات المُشفرة يتسم سعرها بالتقلبات الحادة، وهو الأمر الذي يظهر في قمم وقيعان منحنى سعر البتكوين، إذ سجل سعرها نحو 0.09 دولار في عام 2010، وارتفع حتى بلغ 1238 دولار في أكتوبر عام 2013، ولكنه انخفض إلى 315.21 دولار في عام 2015، ثم ارتفع في ديسمبر عام 2017 إلى 19.34 ألف دولار، واستمر كذلك في الانخفاض والارتفاع، إلى أن بلغ 76.10 ألف دولار في نوفمبر 2024.
وفي السياق ذاته، شهدت أسعار البتكوين طفرة كبيرة، بعد تنصيب ترامب في 20 يناير، إذ سجلت نحو 109 آلاف، ولكن في فبراير 2025، شهدت أسعار البتكوين تراجعًا من 100.65 ألف دولار في 1 فبراير إلى 84.381 ألف دولار في 28 فبراير، وبعد أن ارتفعت قيمتها في 5 مارس إلى 90.611 ألف دولار، انخفضت في 9 مارس إلى 80.69 ألف دولار؛ بسبب تأثير قرار إنشاء احتياطي استراتيجي من البتكوين للولايات المتحدة الأمريكية، وعلى ذلك يتضح التذبذب الكبير في سوق عملة البتكوين، وهو ما يجعلها خيار استثماري ذو مخاطر مرتفعة.
مؤثرات مهمة
إن التقلبات في سعر عملة البتكوين يتوقف على عدد من المؤثرات الرئيسية، التي تتمثل في الآتي:
(-) العرض والطلب: يتأثر سعر عملة البتكوين بمتغيري الطلب والعرض، كعموم العملات التقليدية الأخرى التي تتبع نظام السوق الحر، إذ يتحدد سعرها في السوق المفتوحة، بناءً على التوازن بين هذين المتغيرين.
وطالما أن البتكوين يتم إصدارها بعرض ثابت، إذ يتم تعدينها بمعدل محدد، فبالتالي الطلب عليها هو الذي يُحدد سعرها في السوق، ففي أوقات ارتفاع سعرها يرتفع الطلب عليها ويحتفظ بها المضاربون لفترة، وعند انخفاض سعرها يقومون ببيعها؛ تحسبًا لمخاطر مستقبلية، ومن هنا يتضح أنه عند تغير هذه العوامل تتغير قيمة العملات المُشفرة في الأسواق.
(-) قرارات المستثمرين: تؤثر قرارات المستثمرين بشكل أساسي في سوق العملات المُشفرة، إذ يحتفظ عدد كبير من المستثمرين بعملة البتكوين ومئات من العملات المُشفرة الأخرى كأصول، ويستخدمونها لشراء مجموعة كبيرة من السلع والخدمات مثل البرامج والعقارات الرقمية، وهو الأمر الذي يؤكد أن قراراتهم بالبيع أو الشراء تؤثر على أسعار سوق العملات المُشفرة.
(-) اختراق المنصات: إن ارتفاع درجة المخاطرة للعملات المُشفرة تتمثل أيضًا في اختراق المنصات، وهو ما يردع المستثمرين عن التوسع في استخدامها، فقد نُفذ أحدث اختراق في 21 فبراير 2025 لمنصة "بايبت"، وتمت سرقة نحو 1.4 مليار دولار من العملات المُشفرة، وهو الأمر الذي تسبب في تراجع أسعارها بشكل كبير، وتكبُد سوق العملات المُشفرة خسائر جمة.
ومن متابعة التاريخ الزمني لهذه العمليات، يتضح أن هذا الاختراق لم يكن الأوحد، ففي مايو 2024 تعرضت بورصة العملات المُشفرة اليابانية DMMBitcoin للهجوم وسرقة 305 ملايين دولار، وسبقها في سبتمبر 2023 اختراق شبكة ميكسين وسرقة 200 مليون دولار من البتكوين والإيثريوم والتيثر.
ومن هنا تمت سرقة نحو 1.7 مليار دولار من العملات المُشفرة في عام 2023، فضلًا عن 3.8 مليار دولار في عام 2022، إذ سجل في هذا العام أكبر عملية اختراق في التاريخ، بسرقة حوالي 625 مليون دولار من شبكة رونين.
استشراف مستقبلي
يُمكن توضيح مستقبل العملات المُشفرة ومستقبل النظام المالي العالمي على النحو التالي:
أولًا: العملات المُشفرة
يتبلور مستقبل العملات المُشفرة في ظل عوامل مُختلفة، يُمكن توضيحها على النحو التالي:
(-) دعم دونالد ترامب: يُشكل دعم ترامب للعملات المُشفرة أحد بوادر توقع مستقبل مزدهر لهذا السوق، فاتجاه الولايات المتحدة الأمريكية إلى إنشاء احتياطي استراتيجي من العملات المُشفرة باستخدام رموز مملوكة بالفعل للحكومة، إذ تمتلك الحكومة الفيدرالية نحو 200 ألف عملة بتكوين، سيُعزز السوق بشكل كبير.
كما أن عقد ترامب قمة للعملات المُشفرة يوم 7 مارس، ووعوده بتحقيق استقرار السوق والقطاع المالي، سيُحقق ارتفاعًا كبيرًا في سعر البتكوين خلال الفترة المقبلة، على الرغم من الصدمة قصيرة الأجل التي تحدث في السوق عقب هذا القرار، والتي تتسبب في انخفاض سعر العملة؛ بسبب أن السوق كان يأمل في خطة حازمة لإنشاء رموز جديدة.
(-) الاتجاه المتزايد نحو العملات المُشفرة: من المحتمل بشكل كبير أن تُغير حكومات الدول نظرتها نحو العملات المُشفرة في ظل الاتجاه نحو تنظيمها بشكل أكبر، فاعتبارًا من يناير 2024، بدأت 130 دولة، في تقديم عملاتها الرقمية في بنوكها المركزية، وهو ما يمهد الطريق نحو استخدام العملات المُشفرة ضمن احتياطي الدول وفي التجارة الدولية.
وفي سويسرا على الرغم من استبعاد رئيس البنك المركزي "مارتن شليجل" استخدام البتكوين في الاحتياطي؛ بسبب أنها متقلبة، فإن هناك مبادرة شعبية أطلقت في ديسمبر 2024 تُطالب بأن تشتمل الاحتياطيات النقدية للبنك المركزي على البتكوين، ولديهم مهلة حتى يونيو 2026؛ لجمع 100 ألف توقيع لإجراء استفتاء.
وفي البرازيل تم طرح مشروع قانون يسمح بإنشاء احتياطي وطني من البتكوين، بأن يمثل حوالي 5% من احتياطي البرازيل، وفي روسيا أعلن وزير المالية "أنطون سيلوانوف" بأن الشركات الروسية بدأت في استخدام عملة البتكوين والعملات الرقمية الأخرى في المدفوعات الدولية، بعد التغييرات التشريعية التي سمحت بهذا الاستخدام من أجل مواجهة العقوبات الغربية، فضلًا عن اقتراح بعض المشرعين الروس بإنشاء مخزون من العملات المُشفرة في خزانة الدولة.
(-) توقعات إيجابية: انتجت القراءة التحليلية لوضع سوق العملات المُشفرة، مجموعة من التوقعات الإيجابية من قبل شركة الأبحاث العالمية، بأن سعر البتكوين سيصل إلى 200 ألف دولار في عام 2025، في ظل احتمالية إصدار تشريعات منظمة لهذا السوق في عهد ترامب.
ومن ناحية أخرى توقعت Coin Shares أن تتراوح أسعار البتكوين من 80 ألف دولار إلى 150 ألف دولار خلال عام 2025، في ظل إمكانية تحقيق ارتفاع يصل إلى 250 ألف دولار على المدى البعيد، كما توقعت "Matrix port" أن يصل سعر البتكوين إلى 160 ألف دولار في 2025، مدفوعًا بالطلب على صناديق الاستثمار المتداولة.
ثانيًا: النظام المالي العالمي
من المُحتمل أن يؤثر الاعتماد المتزايد على العملات المُشفرة، في النظام المالي العالمي على النحو التالي:
(-) تقليل الاعتماد على العملات التقليدية: مع تزايد استخدام العملات المُشفرة في المعاملات اليومية، واتجاه الحكومات نحو تكوين احتياطي استراتيجي منها، قد ينخفض الطلب على بعض العملات الورقية، خاصة في الدول التي تعاني من ضعف العملة المحلية والتضخم المرتفع.
(-) تقلب أسعار العملات التقليدية: قد يترتب على الاستثمار الكبير في العملات المُشفرة خلل واضح في سوق العملات التقليدية وتغير كبير في أسعارها، خاصة إذا كان هناك تحركات كبيرة لرؤوس الأموال بين النظامين، فهذه الأسواق تحكمها قاعدة أساسية هي العرض والطلب، وهو ما يجعلها أسواقًا متنافسة، بالأخص إذا زادت درجة تنظيم العملات المُشفرة، ومن ناحية أخرى، ففقاعات المضاربة على العملات المُشفرة ستُمثل اختبارًا حقيقيًا للدولار الأمريكي.
(-) زيادة الابتكار في النظام المالي: العملات المُشفرة توفر تحويلات مالية أسرع وأرخص عبر الحدود، مما قد يقلل من الاعتماد على البنوك التقليدية وأنظمة الدفع التقليدية مثلSWIFT، ومن ناحية أخرى، يدفع النمو في هذه العملات البنوك المركزية إلى تطوير عملات خاصة بها، مثل العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs) لمواكبة التطور التكنولوجي، وهو ما يرفع درجة الابتكار في النظام المالي.
وفي النهاية، يُمكن القول إن سوق العملات المُشفرة واحد من أكثر الأسواق المالية ديناميكيةً وتقلبًا، إذ يشهد تطورات مستمرة من حيث التكنولوجيا والتشريعات، ومستويات التبني المؤسسي والفردي، وعلى الرغم من التحديات، مثل التقلبات الحادة واللوائح الحكومية، تواصل هذه العملات إثبات أهميتها في النظام النقدي العالمي.
وعلى الرغم من ذلك، لا يزال التوسع في سوق العملات المُشفرة وتحقيق الاستقرار النسبي في قيمتها مرهونًا بالتوازن بين الأمن السيبراني والمرونة التنظيمية وإمكانيات الابتكار المستقبلي.