أدى الخلاف بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في البيت الأبيض، إلى تدهور العلاقات بين البلدين، كما تسبب في أضرار جسيمة لتحالف حلف شمال الأطلسي "ناتو"، والذي تأسس في قلب النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وفق ما ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية.
وقالت الصحيفة إن ترامب أعلن عن موقف اعتبره العديد من الحلفاء الأوروبيين انحيازًا إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من خلال رفض المخاوف الأمنية لدولة صديقة تحتاج إلى مساعدة غربية، وقوله إن الرئيس الأوكراني يخسر الحرب وليس لديه "أي أوراق".
واعتبرت الصحيفة أن احتضان الرئيس الأمريكي لروسيا، الخصم الذي عمل لسنوات على تقويض الزعامة العالمية للولايات المتحدة، يتعارض مع عقود من السياسة الغربية. وأشارت إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها أسسوا منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" قبل 75 عامًا كحماية ضد روسيا السوفيتية.
وأوضحت الصحيفة أن حلف شمال الأطلسي يقوم على فكرة مُفادها أن الولايات المتحدة سوف تستخدم قوتها العسكرية، بما في ذلك ترسانتها من الأسلحة النووية، للدفاع عن أي حليف يتعرض للهجوم، ولكن هذا الافتراض الأساسي أصبح الآن موضع تساؤل.
ونقلت الصحيفة عن الأميرال البحري المتقاعد جيمس ستافريديس، الذي شغل منصب القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي: "أخشى أن نكون في الأيام الأخيرة لحلف شمال الأطلسي".
وأضاف أن التحالف عبر الأطلسي "قد لا يكون على وشك الانهيار، لكنني أستطيع بالتأكيد أن أسمع صريره بصوت أعلى من أي وقت مضى في مسيرتي الطويلة في الجيش".
وكتب ترامب، أمس الأول الأحد، على منصته الاجتماعية "تروث سوشيال": "يجب أن نقضي وقتا أقل في القلق بشأن بوتين، والمزيد من الوقت في القلق بشأن عصابات الاغتصاب للمهاجرين، وتجار المخدرات، والقتلة، والأشخاص من المؤسسات العقلية الذين يدخلون بلادنا - حتى لا ننتهي مثل أوروبا!" وفي الأسبوع الماضي، قال إن الاتحاد الأوروبي "تم تشكيله من أجل خداع الولايات المتحدة".
وما زال من غير الواضح مدى قوة دعم ترامب لحلف شمال الأطلسي، الذي انتقده في الماضي، إذ قال ترامب في البيت الأبيض يوم الجمعة: "نحن ملتزمون بحلف شمال الأطلسي"، كما أشاد ببولندا، العضو في الحلف، التي تنفق بكثافة على الدفاع، وكان أقل حماسة في دعمه لدول البلطيق ذات الإنفاق المرتفع، والتي هي أيضًا عضو في حلف شمال الأطلسي.
ويوم السبت، أيد الملياردير إيلون ماسك، مستشار ترامب الذي يرأس وزارة كفاءة الحكومة، منشورًا يدعو إلى انسحاب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي والأمم المتحدة على منصته للتواصل الاجتماعي "إكس".
لقد امتنع الزعماء الأوروبيون، الذين يعتمدون على حلف شمال الأطلسي من أجل أمن بلدانهم، عن الحديث علنًا عن التهديدات المميتة التي تواجه التحالف، ولكن بعضهم بدأوا يتحدثون عن خطط بديلة.
وقالت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، يوم السبت: "نريد الحفاظ على الشراكة عبر الأطلسي وقوتنا المشتركة".
وأضافت في إشارة إلى الأحداث التي وقعت، يوم الجمعة، في البيت الأبيض: "لكن ما حدث بالأمس أظهر مرة أخرى أننا نحن الأوروبيين لا ينبغي لنا أن نكون ساذجين. يتعين علينا أن نتحمل المسؤولية عن مصالحنا وقيمنا وأمننا، من أجل شعبنا في أوروبا".
واجتمع زعماء أوروبيون في لندن، يوم الأحد، وتعهدوا بتطوير خطة سلام لأوكرانيا ورفضوا التلميحات بأن اجتماع البيت الأبيض يوم الجمعة، قد أضر بالتحالف عبر الأطلسي، وقال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر: "لا أقبل أن الولايات المتحدة حليف غير موثوق به".
وتقود المملكة المتحدة وفرنسا جهودًا لتطوير "تحالف الراغبين" الذي من شأنه أن يضمن وقف إطلاق النار في نهاية المطاف في أوكرانيا، بما في ذلك من خلال نشر قوات برية وأصول عسكرية.
وتأمل الدولتان أن تتمكنا من إقناع ترامب بالمساهمة في خطتهما ببعض الموارد العسكرية الأمريكية الحيوية، حيث تعجز أوروبا، مثل أنظمة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع والقيادة والسيطرة والدفاع الجوي والنقل الجوي الثقيل.
وتفتقر أوروبا إلى ما يسميه خبراء التكتيكات العسكرية بالتمكين، الأنظمة والمعدات التي تمكن العمل العسكري الحديث، سواء لعملية محتملة في أوكرانيا أو للدفاع عن أوروبا نفسها.
والدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي لا تمتلك هذه القدرات بسبب مزيج من نقص الاستثمار لديها وتفضيل أمريكا منذ فترة طويلة السيطرة على مثل هذه الأنظمة.
وفي التقسيم التقليدي للعمل في حلف شمال الأطلسي، كان من المتصور على نطاق واسع أن تساهم أوروبا بالجزء الأكبر من القوات في حين توفر الولايات المتحدة أنظمة متطورة وتماسكًا لقوات التحالف.
وتقلب الأزمة الحالية معضلة الأمن التي تواجهها أوروبا منذ أمد بعيد رأسًا على عقب، فلسنوات، ظل الاستراتيجيون الأمريكيون قلقين بشأن ما إذا كانوا قادرين على صد العداء من جانب موسكو إذا لم تبذل أوروبا قصارى جهدها عسكريًا. والآن أصبح الأوروبيون في حالة من التوتر الشديد، ويتساءلون عمّا إذا كانوا قادرين على الدفاع ضد روسيا من دون الولايات المتحدة.
وقالت روز جوتيمولر، نائبة الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي والمفاوضة الرئيسية بشأن الأسلحة الأمريكية مع روسيا: "من الحكمة أن يشعر الأوروبيون بالقلق، وأن يبنوا صناعتهم وقدراتهم العسكرية".
وذكرت جوتيمولر أن القلق بشأن التزام الولايات المتحدة اندلع لأول مرة في عام 2017، في بداية ولاية ترامب الأولى، عندما وقف أمام مبنى المقر الجديد لحلف شمال الأطلسي، ورفض تأييد ميثاق الدفاع المتبادل الأساسي للتحالف ما لم يرفع الأوروبيون الإنفاق العسكري.
ومنذ ذلك الحين، قفزت النفقات الأوروبية، وفي أول زيارة له إلى مقر حلف شمال الأطلسي، أكد وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث، مؤخرًا، التزام أمريكا بالحلف ومبدأه الأساسي المتمثل في الأمن الجماعي، في حين حث الأوروبيين على إنفاق المزيد.
الفارق الآن، كما توضح "وول ستريت جورنال" يكمن في وجهة نظر الإدارة الأمريكية بشأن التهديدات التي تشكلها روسيا، وتقول الصحيفة إن ترامب وفريقه يتعاملون مع روسيا، ويقفون إلى جانب بوتين، ويرفضون الحذر الأمريكي التقليدي تجاه الكرملين إلى درجة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، وببعض المقاييس منذ تأسيس الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من قرن من الزمان، في حين لا يزال أغلب الزعماء الأوروبيين ينظرون إلى روسيا بقيادة بوتين باعتبارها تهديدًا وجوديًا.
لا يبدو أن هجومًا روسيًا واسع النطاق على أوروبا وشيكًا، ولكن احتمال التوصل إلى هدنة في أوكرانيا يثير القلق الأوروبي. ويخشى العديد من حلفاء واشنطن التقليديين أن يؤدي الاتفاق إلى وضع روسيا في موقف يسمح لها بإعادة بناء جيشها واقتصادها ومكانتها العالمية المنهكة دون تعزيز الأمن الأوروبي في الوقت نفسه.
في دراسة استقصائية حديثة أجريت على ما يقرب من 400 من خبراء الأمن الدولي الأوروبيين لتقييم 30 خطرًا محتملًا شديد التأثير على الاتحاد الأوروبي هذا العام، تم تحديد وقف إطلاق النار في أوكرانيا لصالح روسيا باعتباره التهديد المحتمل الأكثر خطورة في القائمة.
وبحسب الدراسة التي أجراها معهد الجامعة الأوروبية، فإن الانعزالية الأمريكية وسحب الضمانات الأمنية التي تقدمها لأوروبا جاءت على قدم المساواة تقريبًا مع صفقة سيئة مع أوكرانيا بين التهديدات المدرجة، وقابلة للمقارنة مع خطر الضربة النووية الروسية.
وقالت فيرونيكا أنجيل، منظمة الاستطلاع: "إن المخاوف الأوروبية تأكدت من خلال ما رأيناه خلال الأسابيع الأخيرة".
تتسابق الحكومات الأوروبية متأخرة لإعادة بناء جيوشها، بسبب الخوف من هجوم من جانب روسيا وتخلي الولايات المتحدة عنها.
وسوف يجتمع زعماء الدول الـ27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في بروكسل، بعد غد الخميس، لمناقشة خطط لتعزيز الإنفاق العسكري وقدرته على التعامل مع التحديات الأمنية بشكل مستقل.
لا تمتلك أوروبا قيادة عسكرية على مستوى القارة خارج حلف شمال الأطلسي. وقد أمضت الولايات المتحدة عقودًا في ضمان ذلك من خلال استقطاب أو قمع أي جهد تبذله الحكومات الأوروبية المتحالفة لإنشاء مجموعات عسكرية منافسة، وقد تحدث الأوروبيون مرارًا وتكرارًا عن إنشاء قوة قتالية متعددة الجنسيات، ولكنهم لم يحققوا سوى القليل من التقدم.
والآن، وفق "وول ستريت جورنال"، يتأمل الأوروبيون كيف قد تبدو الدفاعات الجماعية بدون الولايات المتحدة، والخطوة التالية ستكون النظر في كيفية الدفاع عن الأراضي الأوروبية دون الاعتماد على الأنظمة الأمريكية.