الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

أفق مجهول.. مستقبل الصراع في الكونغو الديمقراطية بعد سيطرة حركة M23 على جوما

  • مشاركة :
post-title
زعماء من شرق وجنوب إفريقيا في اجتماع طارئ بشأن الصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، في 8 فبراير 2025

القاهرة الإخبارية - ساجدة السيد

في يوم السبت 8 فبراير 2025، انعقدت قمة تنزانيا في مدينة دار السلام، من أجل البحث عن حلول للصراع القائم في جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تخوض معركة شرسة تهدد استقرار المنطقة برمتها، إذ تحوَّلت الكونغو إلى مسرح لصراعٍ دموي عنيف مع سيطرة حركة "23 مارس" (M23) على مدينة جوما الاستراتيجية التي تُعد بوابةً للثروات الطبيعية التي تكتنزها الأرض الكونغولية. 

ومع اشتعال المواجهات على الأرض الكونغولية، تتسارع وتيرة المعاناة الإنسانية بشكل مريع، إذ تمتلئ المستشفيات بالجرحى والقتلى بينما تقطعت السبل بمئات الآلاف من المدنيين الذين أُجبِروا على النزوح؛ هربًا من الموت، ويُضاف إلى ذلك التوترات السياسية القائمة منذ القِدَم بين جمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا، ما يجعل الأفق ضبابيًا في ظل غياب حلول سريعة للصراع القائم.

قمة تنزانيا 2025 - جهود إقليمية لإنهاء الصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية

تأسيسًا على ما تقدَم، يسعى التحليل للإجابة عن سؤال: ما مستقبل الصراع في جمهورية الكونغو الديمقراطية بعد سيطرة حركة 23 مارس على جوما؟

مشهد مُعَقَّد

تصاعد الصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، مُشَكِّلًا مشهدًا مُعَقَّدًا من العُنف، حيث:

(&) سيطرة حركة 23 مارس (M23) على مدينة جوما: بدءًا من يوم الأحد 26 يناير 2025، أعلنت حركة 23 مارس سيطرتها على مدينة جوما التي تُعَد كبرى مدن شرق الكونغو الديمقراطية وعاصمة إقليم شمال كيفو، ما أثار مخاوف من تصعيد الصراع وتفاقُم الأزمة الإنسانية، وتم الأمر بشكل تدريجي من خلال اندلاع معارك عنيفة انتهت بسيطرة حركة 23 مارس على مطار جوما، ما أدى لنزوح واسع ومخاوف من اندلاع نزاع إقليمي، وأسفرت المواجهات عن مقتل 13 جنديًا أجنبيًا بينهم ثلاثة من قوات حفظ السلام، في حين استدعت كينشاسا دبلوماسييها من كيجالي، متهمة رواندا بالسعي للاستيلاء على المدينة. وفي كينشاسا، هاجم محتجون عدة سفارات احتجاجًا على تصاعُد الصراع.

(&) وقف إطلاق النار من جانب واحد: خلال بيان رسمي يوم الاثنين 4 فبراير 2025، أعلن تحالُف الجماعات المتمردة في شرق الكونغو "نهر الكونغو" الذي يضم حركة 23 مارس، وقفًا أحادي الجانب لإطلاق النار لأسباب إنسانية بعد سيطرتهم على جوما، إذ أسفرت الاشتباكات عن مقتل 900 شخص وإصابة 2880 آخرين وفقًا للأمم المتحدة، واتهم التحالف الجيش الكونغولي بقتل المدنيين من خلال قصف المناطق التي يسيطرون عليها بالطائرات، كما أكد التحالف عدم نيته التقدم نحو مدينة بوكافو (عاصمة إقليم جنوب كيفو) أو السيطرة على مناطق إضافية.

(&) اتهامات متبادلة بين الكونغو الديمقراطية ورواندا: تتهم حكومة الكونغو الديمقراطية رواندا بتأجيج الصراع في شرق الكونغو من خلال دعمها حركة 23 مارس، وتستند هذه الاتهامات إلى تقرير صادر عن خبراء الأمم المتحدة عام 2022، الذي أفاد بوجود أدلة قوية تشير إلى مشاركة القوات الرواندية في هجمات إلى جانب متمردي الحركة. وفي المقابل، تنفي رواندا هذه الاتهامات مدعية اتخاذها تدابير دفاعية، وتتهم الكونغو بالتعاون مع "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا" المتهمة بارتكاب هجمات ضد عرقية التوتسي.

إضافةً إلى ذلك، اتهمت جمهورية الكونغو الديمقراطية وتقارير الأمم المتحدة، رواندا باستغلال النزاع القائم للاستحواذ على المعادن الثمينة مثل الذهب والكولتان (تُستخدَم في صناعة الهواتف المحمولة والأجهزة الإلكترونية). وفي السنوات الأخيرة، بسطت حركة 23 مارس سيطرتها على مناطق التعدين الغنية، وكشف تقرير صادر عن الأمم المتحدة ديسمبر 2024 أن الحركة ترسل نحو 120 طنًا من الكولتان إلى رواندا كل أربعة أسابيع، ورصد التقرير زيادة ملحوظة في صادرات رواندا من المعادن، ويُعتقد أن مصدرها الكونغو، ورغم ذلك تنفي رواندا هذه الاتهامات.

جوما تحت النار - حصيلة دامية للصراع

(&) مأساة النزوح والانتهاكات الإنسانية: أكد المتحدث باسم مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان جيريمي لورانس، تصاعُد العنف في شرق الكونغو مع تقدم حركة "إم 23" نحو بوكافو، ووثق وقوع إعدامات جماعية واعتداءات إنسانية. كما أشار إلى التجنيد القسري للسكان المدنيين واستخدام المدارس والمستشفيات كمواقع عسكرية، وأعربت المنظمة الدولية للهجرة عن قلقها العميق إزاء النزوح الجماعي نتيجة العنف المستمر في جوما، ما أدى إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية في المنطقة.

(&) تحذيرات وإدانات من تفاقُم الأزمة: خلال افتتاح الدورة الاستثنائية السابعة والثلاثين يوم الجمعة 7 يناير 2025، حذّر المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان "فولكر تورك" من تفاقُم العنف في شرق الكونغو الديمقراطية، معربًا عن قلقه العميق إزاء التصعيد، وأن الأسوأ ربما لم يأتِ بعد، كما أدانت دول مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي هجوم حركة "23 مارس" على جوما، باعتباره انتهاكًا صارخًا لسيادة الكونغو.

(&) جهود دبلوماسية إقليمية: خلال قمة مشتركة في دار السلام بتنزانيا يومي الجمعة والسبت 7 و8 فبراير 2025، اجتمع قادة مجموعة تنمية الجنوب الإفريقي (سادك) ومجموعة شرق إفريقيا (إياك)، بحضور زعيمي الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسكيدي ورواندا بول كاغامي، لبحث سبل التهدئة وحل النزاع المتصاعد في شرق الكونغو، وتهدف القمة إلى تحقيق تقدم بعد تَعَثُّر عمليتي السلام في لواندا ونيروبي، مع التركيز على الأولويات العاجلة المتمثلة في وقف إطلاق النار وفتح طرق الإمداد.

تُظهِر هذا التطورات تعقيد الأزمة في شرق الكونغو الديمقراطية، مع استمرار التوترات الإقليمية وتصاعُد التحديات الإنسانية والأمنية.

دوامة لا تنتهي

وفقًا للمراقبين، يُعدُّ الصراع القائم في الكونغو الديمقراطية، انعكاسًا لتعقيدات تاريخية وجيوسياسية واقتصادية عميقة، ويعود تعقيد المشهد إلى عدة عوامل وأسباب قديمة متجددة، منها:

حركة M23 في جمهورية الكونغو الديمقراطية

(&) عوامل تاريخية: يظل تاريخ التدخل العسكري بين أوغندا ورواندا في جمهورية الكونغو الديمقراطية محورًا رئيسيًا لفهم الصراع الحالي في منطقة البحيرات العظمى، ففي حرب الكونغو الأولى (1996-1997)، تعاونت الدولتان للإطاحة بنظام موبوتو سيسي سيكو، بينما تَحوَّل التحالُف بينهما إلى عداء في حرب الكونغو الثانية (1998-2008) عندما دعمت كل منهما جماعات مسلحة متنافسة للإطاحة بحكومة لورانت كابيلا، فهذه الصراعات المستمرة خلَّفت توترات عميقة بين البلدين، ما ساهم في تعقيد الوضع الأمني في الكونغو الديمقراطية حتى يومنا هذا، ويظل تصاعد الصراع في إقليمي كيفو وظهور حركة 23 مارس، بجانب الاتصالات بين قيادات الجيوش خلال الأشهر الأخيرة، عاملًا مؤثرًا في تأجيج الصراع وإدامة عدم الاستقرار بالكونغو.

(&) الصراعات العرقية والتنافُس الإرثي: يُعدُّ شرق الكونغو الديمقراطية "برميل بارود إثني" مع تعايُش عدد كبير من المجموعات العرقية المتنافسة أبرزها الهوتو والتوتسي، ويتم توظيف هذا التنافس سياسًا وعسكريًا من قِبَل جهات محلية وإقليمية. وعند النظر إلى أطراف الصراع، نلاحظ أن حركة "23 مارس" تتكون في معظمها من التوتسي وتحظى بدعم ضمني من رواندا، بينما تدعم الكونغو الديمقراطية ميليشيات الهوتو، مثل القوات الديمقراطية لتحرير رواندا، فهذه التوازنات الهشَّة تؤجج العنف بشكل دوري، بمحاولات كل مجموعة لترسيخ وجودها العسكري والسياسي.

(& التنافُس الاقتصادي على الموارد: تزخر الكونغو الديمقراطية بثروات معدنية هائلة جعلتها بؤرة للتنافس الدولي والإقليمي، باعتبارها أكبر منتجي الألماس عالميًا، وتمتلك ثاني أكبر احتياطي من النحاس، وتستحوذ على 60% من الكوبالت، بجانب احتياطات ضخمة من الليثيوم، والزنك، والتنجستن، كما تعد الكونغو من أغنى الدول باليورانيوم مما جعلها لاعبًا محوريًا في قطاع الطاقة النووية، إلى جانب معدن الكولتان النادر جدًا وتسيطر أيضًا الكونغو على إنتاجه.

هذا الثراء الاستثنائي في ظل استقرار سياسي هشّ، أجَّج التدخلات الخارجية والصراعات العرقية، فبدلًا من أن تكون تلك الثروات نعمة اقتصادية، تحولت إلى لعنة تتصارع الجماعات المسلحة عليها بدعم من شركات متعددة الجنسيات وأطراف دولية، من أجل السيطرة على المناجم والتهريب.

ويُعد الاقتصاد الأسود (Black Economy) في الكونغو نموذجًا لنهب الموارد وتهريبها عبر رواندا وأوغندا، ومن ثم بيعها في الأسواق العالمية، فهذا النظام يُبقي الصراع مستمرًا، إذ تجد الميليشيات في التجارة غير الشرعية مصدرًا مستدامًا للتمويل.

(&) تقاطُع المصالح في منطقة البحيرات العُظمى: يعود الصراع الراهن في المنطقة إلى التحالفات الإقليمية المتغيرة والمعقدة بين رواندا وأوغندا وبوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية التي تتشابك مصالحها الأمنية والجيوسياسية، إذ اتهمت رواندا كلًا من جمهورية الكونغو الديمقراطية وبوروندي بالتعاون مع جماعات مسلحة معارضة، مثل القوات الديمقراطية لتحرير رواندا وميليشيا وازاليندو، كما تُعد بوكافو وسهل روزيزي من بؤر التوتر الرئيسية بين الجماعات المتمردة والجيش البوروندي، ما يعكس الصراع المعقد في المنطقة.

ومع سيطرة حركة "إم 23" على إقليم شمال كيفو وتوغلها في جنوب كيفو، تتصاعد التوترات بشكل أكبر، ما يهدد باندلاع صراع إقليمي واسع، وهذه الديناميكيات العسكرية تؤجج النزاع في الكونغو، إذ تسعى الحركة لتحقيق أهداف استراتيجية من خلال السيطرة على مزيد من الأراضي وبناء تحالفات جديدة، ما يزيد من تعقيد الوضع الأمني في المنطقة.

سيناريوهان محتملان

في ظل تصاعُد الصراع في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية والمشهد المُعَقَّد، تبرز عدة سيناريوهات مُحتملَة تُحدِّد مصير المنطقة ومستقبلها، وهي:

(أولًا) سيناريو التصعيد العسكري الشامل: من المرجح استمرار الصراع القائم في الكونغو من خلال تَقَدُّم حركة 23 مارس نحو مدن استراتيجية أخرى مثل بوكافو، ما يجبر الجيش الكونغولي على خوض معارك واسعة النطاق، إلى جانب تمدُّد العنف إلى دول الجوار مثل رواندا وأوغندا، ما يتمخض عنه صراع إقليمي أوسع، بجانب تداعيات اقتصادية وإنسانية بالداخل، ومن ثم سَعِي الكونغو لطلب دعم دولي من دول مثل روسيا والصين.

(ثانيًا) سيناريو التسوية الدبلوماسية: من المرجح وجود وساطات إقليمية مثل قمة مجموعة شرق إفريقيا (EAC) في فرض هدنة إجبارية بين الأطراف، إلى جانب تقديم تنازلات سياسية مثل إشراك حركة "23 مارس" في الحكومة الكونغولية أو منحها حكمًا ذاتيًا في بعض المناطق، ناهيك عن نشر قوات إقليمية إضافية تحت قيادة مجموعة تنمية الجنوب الإفريقي (SADC)، لمراقبة تطبيق الاتفاقيات.

خلال هذا الطرح، في ظل المعطيات الحالية، يبدو أن السيناريو الأكثر ترجيحًا هو استمرار التصعيد العسكري مع محاولات متقطعة للتهدئة، بجانب التدخل الدولي الذي قد يكون حاسمًا في توجيه الأزمة نحو التسوية أو التصعيد، خاصًة في حال تدخلت قوى كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسا لفرض ضغوط على رواندا أو الجيش الكونغولي، للتخفيف من الأزمة الإنسانية الراهنة. فالمدى القصير سيشهد مزيدًا من النزوح والعنف، بينما المدى البعيد يعتمد على نجاح الجهود الدبلوماسية مثل تنفيذ القرارات المُتخذة خلال قمة تنزانيا 8 فبراير 2025، من أجل نزع فتيل الأزمة الراهنة، لكن يبقى مستقبل الصراع في الكونغو الديمقراطية مُحاطًا بالضبابية إلى أن تتوحد الإرادات الإقليمية والدولية، وتضع حدًّا ملموسًا لهذا الوضع الكونغولي المتأزم.