تواجه فرنسا تحت قيادة الرئيس إيمانويل ماكرون منعطفًا حرجًا في مسيرتها نحو ريادة الذكاء الاصطناعي، فخلال 15 يومًا فقط في يناير 2025، تعرضت الاستراتيجية الفرنسية لصدمتين متتاليتين هزتا أركان المشهد التكنولوجي في البلاد، أولهما الإعلان الأمريكي عن استثمارات ضخمة في مشروع "ستارجيت"، والثانية مع ابتكار صيني غير متوقع في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
وأوضحت صحيفة "بوليتيكو" كيف أجبرت هذه التطورات ماكرون على إعادة صياغة خططه الطموحة لجعل فرنسا قوة عالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، في وقت يسعى فيه لحماية المصالح التكنولوجية الفرنسية والحفاظ على استقلالها الرقمي في مواجهة المنافسة العالمية المتصاعدة.
صدمة التفوق الأمريكي والصيني
في منتصف يناير الماضي، شهد قصر الإليزيه لقاءً مصيريًا جمع نخبة الصناعة التكنولوجية الفرنسية مع ماكرون في صالون السفراء الفخم، وحضر اللقاء -وفقًا لبوليتيكو- قادة أبرز الشركات التكنولوجية في فرنسا، من بينهم آرثر منش رئيس شركة ميسترال، المتخصصة في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، وأنطوان بورديس رئيس شركة هيلسنج، ورجل الأعمال الملياردير كزافييه نيل.
وبينما كان بعض الحاضرين منشغلين بتقاليد المأدبة الفرنسية الرسمية، حمل قادة التكنولوجيا رسالة واحدة واضحة لماكرون، وهي أوروبا تواجه خطر الخروج من سباق الريادة العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي.
وبعد أسبوع من هذا اللقاء، جاءت الصدمة الأولى مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطة "ستارجيت" في 21 يناير، والتي تضمنت استثمارًا هائلًا بقيمة 500 مليار دولار في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي.
وكان وقع هذا الإعلان كالصاعقة على الأوساط التكنولوجية الأوروبية، ونقلت بوليتيكو عن لور دي روسي-روشيجوند، خبيرة الذكاء الاصطناعي في معهد IFRI الباريسي، وصفها للحظة قائلة: "أصاب الإعلان الجميع بالذهول... وخيَّم شعور بالكآبة مع إدراك استحالة منافسة هذا المبلغ الضخم، فحتى لو لم تنجح الولايات المتحدة في جمع كامل المبلغ المستهدف، فإن خُمس هذا المبلغ يفوق بكثير ما يمكن لأوروبا تخصيصه لهذا المجال".
المفاجأة الصينية والاستراتيجية الأوروبية الجديدة
لم تكد أوروبا تستوعب الصدمة الأمريكية حتى جاءتها مفاجأة أخرى لكنها هذه المرة من الصين، إذ أعلنت شركة DeepSeek الناشئة عن نجاحها في تطوير روبوت محادثة متطور بتكلفة أقل بكثير من منافسيه الغربيين مثل ChatGPT.
وهذا التطور غير المتوقع أعاد تشكيل المشهد العالمي للذكاء الاصطناعي، وأحيا الآمال بأن السباق العالمي لن يُحسم فقط لصالح من يملك أكبر ميزانية.
وفي هذا السياق، نقلت بوليتيكو عن جاستن فايس، رئيس منتدى باريس للسلام، تحليله للموقف قائلاً: "الولايات المتحدة تستخدم القوة الغاشمة بموارد ضخمة ووحدات معالجة رسومية ومراكز بيانات... لكن الصينيين حققوا نتائج أفضل.. هكذا يعمل الابتكار، أولًا يقتحم شخص ما الحصن بالقوة، ثم يدخل آخر من الباب الخلفي"، وأضاف متحسرًا: "المؤسف أن الأوروبيين لم يكونوا هم من اكتشف هذا الباب الخلفي".
التحرك الأوروبي وآفاق المستقبل
في خضم هذه التطورات المتسارعة، تحولت قمة الذكاء الاصطناعي في باريس إلى منصة حيوية لعرض القدرات الأوروبية وحشد الدعم للقطاع التكنولوجي في القارة.
ويسعى ماكرون، وفقًا لمسؤول حكومي فرنسي تحدث لـ"بوليتيكو"، إلى تعزيز مبدأ "التفضيل الأوروبي" في مجال الذكاء الاصطناعي، ويشمل ذلك طرح حوافز لتشجيع شراء المنتجات الأوروبية، وإنشاء بنك بيانات بأسعار تفضيلية للشركات المحلية، مع زيادة المنح الأوروبية لدعم الصناعة المحلية.
وفي خطوة إيجابية على هذا الصعيد، نجح ماكرون في تأمين استثمار إماراتي ضخم يتجاوز 30 مليار يورو لبناء مركز بيانات في فرنسا بقدرة جيجاوات.
ووصف أحد مستشاري الرئيس الفرنسي هذا الاستثمار بأنه "دليل على جاذبية فرنسا" في المجال التكنولوجي.
وأبرزت "بوليتيكو" المخاوف الأوروبية من تأثير هذه التطورات على مستقبل الحضارة والقيم الأوروبية، فبحسب برونو بونيل، رئيس هيئة الاستثمار العامة الفرنسية "فرنسا 2030"، تمثل المستجدات الأمريكية والصينية "جرس إنذار" لأوروبا، متسائلًا: "هل نريد أن تُولَّد جميع إجابات روبوتات المحادثة من خلال منظور الثقافتين الصينية أو الأمريكية؟".
وتشير التوقعات المستقبلية للصحيفة إلى أن صناعة الذكاء الاصطناعي الأوروبية قد تتجه نحو التخصص في مجالات محددة، بدلًا من محاولة منافسة العملاقين الأمريكي والصيني في تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي الأساسية التي تتطلب استثمارات ضخمة.
ويرى مايكل جاكسون، المستثمر التكنولوجي الأمريكي المقيم في باريس، أن هذا التوجه قد يكون الخيار الأكثر واقعية لأوروبا، رغم أنه يعني التخلي عن طموحات أكبر والاعتماد على تكنولوجيا يتحكم فيها منافس أو صديق متقلب في أحسن الأحوال.