شهدت الساحة السياسية الفرنسية تطورًا دراماتيكيًا، عندما نجح رئيس الوزراء فرانسوا بايرو، في تحقيق ما عجز عنه أسلافه منذ عام 2022، حيث تمكن من إقناع الحزب الاشتراكي بالانفصال عن حلفائه في تحالف اليسار والامتناع عن التصويت على مذكرة حجب الثقة عن حكومته، في تحول سياسي قد يرسم ملامح مرحلة جديدة في المشهد السياسي الفرنسي.
تعهدات وتنازلات
وبحسب صحيفة لوموندالفرنسية، بدأت القصة عندما وجد الاشتراكيون أنفسهم في حيرة بعد خطاب السياسة العامة لبايرو يوم الثلاثاء، حيث لم يجدوا في خطابه الالتزامات التي قدمها وزير الاقتصاد إريك لومبارد. وهنا برز دور المستشار الخاص لرئيس الوزراء، إريك تييرز، الذي لعب دورًا محوريًا في إقناع الحزب الاشتراكي بزعامة أوليفييه فور بعدم التصويت لإسقاط الحكومة، وخلال 48 ساعة فقط، نجح المسؤول الحكومي الكبير في "إعادة كسب" حزب فور من خلال سلسلة من التعهدات الجوهرية.
وتضمنت هذه التعهدات التزامات واضحة من الحكومة، شملت منح البرلمان الكلمة الأخيرة في ملف المعاشات، والتراجع عن خطة تسريح 4000 معلم، وإضافة يومين إجازة مرضية لموظفي الحكومة.
وتُوجت هذه الجهود برسالة مفصلة من رئيس الوزراء، يشرح فيها سلسلة التنازلات المقدمة للقيادات الاشتراكية، في خطوة غير مسبوقة تعكس جدية الحكومة في التوصل لاتفاق.
انقسام اليسار
أدى هذا التحول الاستراتيجي إلى نتائج عميقة على المشهد السياسي الفرنسي، إذ كشفت "لوموند" أن مذكرة حجب الثقة التي تقدم بها حزب "فرنسا الأبية" اليساري المتطرف، والذي دعمها حزبا الخضر والشيوعيون، حصلت على 131 صوتًا فقط، وهو رقم بعيد كل البُعد عن الأغلبية المطلوبة البالغة 288 صوتًا.
وفي هذا السياق، علق زعيم أنصار ماكرون في مجلس الشيوخ، فرانسوا باتريا، بأن "بايرو نجح في إحداث انقسام، أعتقد أنه لا رجعة فيه، في الجبهة الشعبية الجديدة".
وفي المقابل، حاول زعيم الحزب الاشتراكي أوليفييه فور الحفاظ على صورة حزبه كمعارضة فعالة، مؤكدًا أن حزبه سيظل يجسد "يسارًا يجبر الحكومة على التراجع".
وقال في خطابه أمام الجمعية الوطنية: "إذا شعرنا أن النقاش مغلق" أو "إذا ظهر كل شيء كمجرد خدعة، سنقدم مذكرة حجب ثقة".
لكن مصادر في مكتب رئيس الوزراء قللت من أهمية هذه التهديدات، معتبرة أن فور "لم يكن بإمكانه قول شيء آخر" في مواجهة اتهامات الخيانة من حركة فرنسا الأبية.
التحديات الاقتصادية
رغم النجاح السياسي، تواجه الحكومة تحديات جسيمة في تمويل التزاماتها المالية الجديدة، إذ نقلت لوموند تساؤلات عديدة من داخل المعسكر الماكروني حول مصدر التمويل.
فقد تساءل باتريا: "من أين سيجد فرانسوا بايرو مليارات اليورو التي منحها للحزب الاشتراكي؟" في حين علق بيير كازنوف، نائب رئيس المجموعة الماكرونية في البرلمان، بنبرة استسلام: "الاتفاق مع الاشتراكيين يكلف دائمًا بعض المال".
وعلى الصعيد الجيوسياسي، حاول بايرو تأطير الوضع في سياق أوسع، إذ استشهد في خطابه أمام النواب ببيان مشترك غير معتاد وقعته منظمات أصحاب العمل والنقابات العمالية في منتصف ديسمبر 2025، يدعو إلى العودة إلى "الاستقرار" السياسي.
كما صور فرنسا وأوروبا كـ"قلاع محاصرة" في مواجهة الصين والولايات المتحدة، في محاولة لحشد الدعم خلف حكومته في مواجهة التحديات الدولية.
استقرار هش
وترى "لوموند" أن بايرو، رغم افتقاره لدعم الرأي العام، بات أقل عرضة للخطر في البرلمان بفضل اتفاق عدم الاعتداء مع جزء من اليسار في الجمعية الوطنية.
وعلق النائب عن حزب النهضة، شارل سيتزنستول، قائلًا: "في الوضع الحالي، محاولة التفاوض بحسن نية مع اليسار الحكومي تعني أيضًا احترام رسالة الشعب الفرنسي في الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية".
ويبدو أن المستفيد الأكبر من هذا الوضع هو المعسكر الماكروني، الذي يشعر بالارتياح لمهارات رئيس الوزراء "المناورة".
وعبر بيير كازنوف عن هذا الشعور بقوله: "لو قال لنا أحد إننا سنحصل دفعة واحدة على استقرار حكومي، وتفكك الجبهة الشعبية الجديدة، والتخلص من وصاية التجمع الوطني، لكنا وقعنا على الفور".
لكن بحسب ما تشير الصحيفة، فإن هذا الاستقرار يظل هشًا، إذ يعتمد على قدرة الحكومة على الموازنة بين الوفاء بالتزاماتها تجاه الاشتراكيين وإدارة التحديات الاقتصادية والسياسية المتزايدة.
وكما نقلت لوموند عن مصدر في مكتب رئيس الوزراء، فإن "ثمن العملية سيظل دائمًا أقل من تكلفة عدم الاستقرار".