الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

ماذا يحمل عام 2025 لفرنسا في القارة السمراء؟

  • مشاركة :
post-title
النفوذ الصيني في إفريقيا

القاهرة الإخبارية - ساجدة السيد

في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة، يبدو أن عام 2025 سيكون نقطة فاصلة في تاريخ العلاقات بين فرنسا وقارة إفريقيا، فقد تزايدت في عام 2024 المطالبات الإفريقية التي تدعو القوات الفرنسية إلى مغادرة الأراضي الإفريقية، في خطوة وصفها البعض بأنها انتكاسة حقيقية لنفوذ باريس في القارة السمراء. فيبدو أن إفريقيا على أعتاب مرحلة جديدة، حيث تسعى دولها إلى إعادة ترتيب علاقاتها مع القوى الدولية الكبرى بعيدًا عن الهيمنة الفرنسية التي لحقتها لعقود طويلة. فبينما تتراجع باريس عسكريًا واقتصاديًا، يُثار الجدل حول مصير دورها الاقتصادي واستراتيجياتها لمواجهة إحلال النفوذ الجديد، إلى أن باتت العلاقات بين فرنسا وإفريقيا على مفترق طُرُق.

تأسيسًا على ما تقدم، يسعى التحليل للإجابة عن سؤال: هل ستتمكن القوى الدولية التي حلت محل فرنسا من الاضطلاع بمسؤولياتها في تعزيز الاستقرار الداخلي ومكافحة الإرهاب في القارة السمراء؟

أبرز مؤشرات تراجُع النفوذ الفرنسي في إفريقيا
الإحلال الدولي في 2024

شهد عام 2024 إحلالًا لقوى دولية متنافسة محل فرنسا في عدة دول إفريقية، وتلَقَت باريس صدمات كبرى، يمكن حصرها في:

(&) انسحاب مرحلي للقوات الفرنسية: ارتفعت الأصوات الإفريقية التي تطالب القوات الفرنسية بالرحيل، بعدما أيقنت الدول الإفريقية أن الاستراتيجية الفرنسية المُتبعة في إفريقيا لم تُجدِ نفعًا، بل أدت إلى تصاعُد الأنشطة الإرهابية في الآونة الأخيرة. واتخذ الانسحاب الفرنسي أشكالًا مختلفة، فنجد مالي قررت طرد القوات الفرنسية في 2022، وبالفعل أكملت القوات الفرنسية المشاركة في عملية برخان انسحابها من مالي في فبراير 2024، وجاء الانسحاب بعد تسع سنوات من تدخُل فرنسا في إطار عملية برخان لمحاربة الجماعات الجهادية في منطقة الساحل. وفي مطلع مايو 2024، أعلن المجلس الحاكم في مالي، برئاسة الكولونيل "عاصمي جويتا" إلغاء جميع الاتفاقيات الدفاعية مع فرنسا وشركائها الأوروبيين، بما في ذلك اتفاقية "سوفا" واتفاقية الدفاع المشتركة الموقعة في 16 يوليو 2014.

وفي مايو 2024، أصدرت وزارة خارجية بوركينا فاسو قرارًا بطرد ثلاثة دبلوماسيين فرنسيين، من بينهم مستشاران سياسيان في السفارة الفرنسية في واجادوجو، بعد اعتبارهم "أشخاصًا غير مرغوب فيهم"؛ بسبب "أنشطة تخريبية"، وطلبت منهم مغادرة البلاد. وفي 10 ديسمبر 2024، أعلنت تشاد بدء المرحلة الأولى من ترحيل القوات العسكرية الفرنسية، بعد مغادرة الطائرات المقاتلة الفرنسية نهائيًا، وفي 26 ديسمبر 2024، أعلنت هيئة الأركان التشادية عن تسليم القاعدة العسكرية في مدينة فايا شمالي البلاد رسميًا للسلطات المحلية، فذلك الانسحاب التدريجي كانت خير شاهد على خسارة فرنسا الكبرى في القارة، واستغلال قوى دولية الوضع الفرنسي؛ لخدمة مصالحها.

(&) وضع فرنسا في مرمى الاتهامات: في الآونة الأخيرة، تواجه فرنسا اتهامات خطيرة تتعلق بدعم الجماعات المسلحة في دول الساحل الإفريقي، عبر توفير معلومات استخباراتية حساسة تسهّل تنفيذ هجمات دقيقة، ولم تُبدِ فرنسا أي رد فعل على هذه الاتهامات، وفضّلت الصمت مما أثار الشكوك لدى تلك الدول حول مصداقية تلك الاتهامات. ورغم غياب الأدلة الملموسة، إلا أن هذه الاتهامات تُغَذِي المشاعر المُعادية اتجاه فرنسا، وتُستخدَم كغطاء لفشل بعض الحكومات الإفريقية في تنفيذ وعودها الرامية لتحقيق الأمن وكبح الوجود الإرهابي. وللإعلام الإفريقي بدول الساحل دور كبير في مهاجمة فرنسا، متهمًا إياها باستخدام القواعد العسكرية لجمع المعلومات التي تخدم مصالحها ونفوذها في المنطقة برمتها. وفي السنغال، مع صعود حزب باستيف السنغالي الشهير بعدائه مع فرنسا وفوزه بالانتخابات التشريعية 2024، يتهم فرنسا بالتدخُل في شؤون السنغال ودول غرب إفريقيا، ويتخذ روسيا شريكًا بديلًا لفرنسا.

(&) إحلال الصين: مَثّل صعود قوى دولية كبرى كالصين في القارة السمراء صدمة أخرى لفرنسا، خاصًة أن استراتيجيتها تختلف عن الاستراتيجية الفرنسية، حتى باتت القارة ساحة تنافُس حاد بين قوى تسعى لإزاحة باريس عن معقل نفوذها التاريخي في إفريقيا. وتتفوق السياسة الصينية ببراجمياتها بتركيزها على المصالح بعيدًا عن القضايا الأيدولوجية وتلتزم بمبدأ عدم التدخُل في الشؤون الداخلية، مما جعلها شريكًا مفضلاً لدى عدة دول إفريقية مقارنة بالنموذج الفرنسي التقليدي.

ففي الفترة من 5 إلى 11 يناير 2025، يزور وزير الخارجية الصيني "وانج يي" أربعة دول إفريقية هي (ناميبيا، جمهورية الكونغو، تشاد، ونيجيريا"، وتأتي الزيارة ضمن تقليد مستمر منذ 35 عامًا باختيار الصين لإفريقيا وجهة لأول زيارة خارجية سنويًا. إلى جانب ذلك، تجد الصين في إفريقيا فرصة استراتيجية لمواجهة التحديات الداخلية مستفيدة من الأصوات الإفريقية في الأمم المتحدة، وتركز بشكل متزايد على القضايا الأمنية، وهو ما يفسر زيارتها لتشاد في وقتٍ بدأت فيه فرنسا سحْب قواتها من المنطقة.

(&) إحلال روسيا: تمكنت روسيا من استغلال الفراغ الذي خلفته كل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا في إفريقيا، إذ عززت من دورها الأمني في دول الساحل الثلاثي (مالي، النيجر، بوركينا فاسو)، عبر التعاون مع الجيوش الوطنية لتلك الدول، وبالفعل نجحت روسيا في سد الفراغ الغربي بالمنطقة على الرغم من أن الإرهاب لا يزال يشكل تحديًا في منطقة يمكن وصفها بـ "مثلث الموت". لكن في الجوانب الاقتصادية والإنسانية، تسعى روسيا جاهدةً بأن يكون لها وجود قوى كالذي تركته كل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا عبر منظماتها. فكان عام 2024 عام التأثير الروسي الكبير في إفريقيا، بالتأييد الشعبي الكبير الذي حصلت عليه موسكو من دول الساحل عقب التوترات التي أسفرت عن تأسيس حكومات تعيد تشكيل التحالفات العسكرية مع روسيا ومجموعة "فاجنر الروسية" التي تلعب دورًا كبيرًا في مكافحة التنظيمات الإرهابية.

دول إفريقية تخرج من العباءة الفرنسية
سيناريوهات 2025

فيما يتعلق بما سيحمله عام 2025 لفرنسا في القارة السمراء، وبالاستعانة ببعض المعطيات الواقعية الأخيرة، من المرجح ما يلي:

(&) تصفير الوجود الفرنسي في القارة: مع حلول عام 2025، اتخذت دول إفريقية خطوات نحو تقليص الوجود الفرنسي بها، فنلاحظ إعلان رئيس ساحل العاج "الحسن واتارا" خلال خطابه بمناسبة العام الجديد 2025، عن انسحاب القوات الفرنسية من بلاده في يناير 2025، في إطار تقليص الحضور العسكري الفرنسي بغرب إفريقيا، ووفق رويترز، تخطط فرنسا لخفض قواتها هناك من 2200 إلى 600 جنديًا. وفي سياق متصل، أعلن الرئيس السنغالي "باسيرو ديوماي فاي" إنهاء التواجُد العسكري الأجنبي في السنغال اعتبارًا من 2025. وفي خطوة حاسمة تعكس مسار القطعية مع فرنسا، في أكتوبر الماضي، أقدمت السلطات الحاكمة في النيجر باستبدال أسماء الشوارع والمعالم ذات الطابع الفرنسي في نيامي بأخرى وطنية وإفريقية، كتحويل شارع "شارل ديجول" إلى "جيبو باكاري"، واستبدال اسم المركز الثقافي الفرنسي بـ "مصطفى الحسن"، وتغيير ساحة "الفرنكوفونية" إلى "تحالُف دول الساحل"؛ تأكيدًا للتحالف مع مالي وبوركينا فاسو.

إلى جانب ذلك، كانت تصريحات الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" خلال كلمته أمام سفراء فرنسا في 6 يناير 2025، بدفاعه عن التدخل الفرنسي في إفريقيا عام 2013 لمحاربة التطرف استفزازية، حيث أشار بسخرية إلى أن الدول التي ابتعدت عن الدعم الفرنسي "نسيت أن تشكرنا"، واثقًا أن الشكر سيأتي لاحقًا، مما أثار غضب عدة دول إفريقية، واستنكرت كلٌ من تشاد والسنغال بشدة تلك التصريحات.

وبالتالي، يبدو أن احتمالية أن تحذو دول إفريقية أخرى حذو السنغال وساحل العاج والنيجر، في مواجهة النفوذ الفرنسي قائمة، خصوصًا في دول تعاني من التدخلات الخارجية وارتفاع المشاعر المعادية لفرنسا كغينيا وجمهورية إفريقيا الوسطى والكاميرون. فتصريحات ماكرون الأخيرة قد تؤدي إلى تدهور العلاقات الدبلوماسية، وتسريع خطوات تصفير الوجود الفرنسي أو تقليصه، ومن ثم دفع الدول الإفريقية للتوجه نحو شركاء جُدد كروسيا والصين.

(&) الإحلال الاقتصادي: يشهد النفوذ الاقتصادي في إفريقيا تحولات كبيرة تتأثر بعوامل متداخلة سياسية وأمنية، فمن المتوقع تقليص النفوذ الاقتصادي الفرنسي في إفريقيا في 2025، خاصًة أن عدد من الدول الإفريقية تسعى لفك الارتباط بالفرنك الإفريقي، وهي العملة التي تمثل أداة رئيسية للنفوذ الاقتصادي الفرنسي، ففرنسا تجني مليارات من "الفرنك الإفريقي" الذي يفرض على 14 دولة إيداع 50% من عائداتها في البنك المركزي الفرنسي. وبالنسبة لليورانيوم والنفط في إفريقيا، نلاحظ أن 75% من اليورانيوم المستخدم في المفاعلات النووية الفرنسية يأتي من النيجر، لكن هذه الدول الإفريقية لا تحصل إلا على 2% من العائدات الناجمة عن الكهرباء المولدة لهذه الموارد.

إلى جانب ذلك، فشلت فرنسا في تقديم الدعم الكافي للدول الإفريقية التي تعاني من ديون جمة، حيث الدين الخارجي لكلٍ من بوركينا فاسو وتشاد ومالي هو 1751 مليون دولار، و2134 مليون دولار، و1863 مليون دولار على الترتيب. فلا نستبعد أن تركز الدول الإفريقية على تنمية الصناعات المحلية، والبحث عن آليات لتخفيف عبء الديون مع المنظمات العالمية، وتقوية اقتصاد القارة بعقد اتفاقات مع منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية، وعقد شراكات اقتصادية مع الصين وروسيا والهند؛ ليحدث الإحلال الاقتصادي الذي يؤثر على ما تبقى لفرنسا في إفريقيا.

(&) إعادة الإحلال: يأتي سيناريو إعادة الإحلال في المقام الأخير، خاصًة أن كل المؤشرات تؤول إلى فشل فرنسا في ترسيخ وجودها في القارة، فاحتمالية أن تسعى فرنسا في المستقبل إلى معالجة الأسباب المؤدية لتراجعها قليلة، ويمكنها التركيز على الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية التي لاتزال ولائها لها؛ من أجل تجنُب الوقوع في نفس الأخطاء التي أدت للقطيعة مع بعض الدول، بالتخلص من الانطباعات السلبية المتراكمة عبر الزمن. فعلى سبيل المثال، في 28 و29 نوفمبر الماضي، زار الرئيس النيجيري بولا تينوبو باريس لأول مرة منذ 25 عامًا، حيث طغت القضايا الاقتصادية على الزيارة التي أسفرت عن تعهدات بإقامة "شراكة اقتصادية" بين فرنسا ونيجيريا.

لذا، قد تتبع فرنسا ثلاث استراتيجيات للتعامل مع الدول الإفريقية التي قطعت علاقاتها معها، الأولى هي زيادة العنف والإرهاب للضغط على الحكومات للعودة إلى العلاقات معها، الثانية هي محاولة تغيير الأنظمة المعادية لها، والثالثة هي السعي لاستعادة العلاقات التعاونية معها. ومن المرجح أن تركز فرنسا على الخيار الثاني، وهو الإطاحة بالسلطات المعادية لها. مع التركيز على الحفاظ على علاقاتها مع الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية التي لا تزال على ولائها لها، بما يهدف لتجنب الوقوع في نفس الأخطاء التي أدت إلى القطيعة مع بعض الدول، والتخلص من الانطباعات السلبية التي تراكمت عبر الزمن.

ختامًا، يشهد النفوذ الفرنسي في إفريقيا منعطفًا حاسمًا، إذ تبدو إفريقيا اليوم على أعتاب عصر جديد تتبدد فيه ملامح الهيمنة التقليدية وتتبلور فيه إرادة دولها لاستعادة سيادتها واستقلالها بما يخدم مصالح شعبها، أما فرنسا تواجه اختبارًا وجوديًا غير مسبوق بتراجُع نفوذها أمام صعود قوى دولية وإقليمية متعددة تسعى لملء الفراغ الفرنسي الراهن. وبين طموح القارة الإفريقية للاستقلال وتحوُلات النظام العالمي، يبقى مستقبل العلاقات الفرنسية الإفريقية مرهونًا بقدرة الطرفين على التكيُف مع معطيات الواقع الجديد، ولا نستبعد أن يكون عام 2025 عام فك الارتباط الإفريقي مع النفوذ الفرنسي، واتساع دائرة الدول التي تخرج من العباءة الفرنسية.