لم يعُد قطاع الرياضة بمختلف تفريعاته مصدرًا للترفيه فقط، بل أصبح كيانًا اقتصاديًا ضخمًا يُحقق التنوع في اقتصاديات الدول المُختلفة، وهو ما جعلها تضخ استثمارات كبيرة في هذا القطاع؛ نظرًا للعوائد الكبيرة التي يُحققها، فضلًا عن أن الرياضة أصبحت أداة فعّالة لتعزيز عائدات السياحة وتحقيق التنمية الشاملة.
وتأسيسًا على ما سبق، يتطرق هذا التحليل إلى التعرف على حجم الاستثمارات في الرياضات الجديدة، بالإضافة إلى خريطة توزيعها ودور القطاع الخاص في تنميتها، فضلًا عن توضيح الانعكاسات الإيجابية للتوسع في هذه الاستثمارات.
إطار عام
يُمكن التعرف على ظاهرة الاستثمارات الرياضية الجديدة من خلال النقاط التالية:
(-) نوعية الرياضات الجديدة: تضمنت دورة الألعاب الأولمبية 2024 في باريس ثلاث رياضات جديدة، وهي التسلُّق والتزلُّج وركوب الأمواج، وبالإضافة إلى ذلك هناك رياضات مستحدثة في أولمبياد باريس، ومنها البريك دانس التي تمزج بين البراعة الفنية والرقص مع الحركات البهلوانية، والكانون المتعرج بالزوارق وقوارب الكاياك، فضلًا عن التزلُّج الشراعي، وألعاب الفروسية، التي باتت تُشكل قوة اقتصادية كبيرة تمتد عبر مجموعة واسعة من القطاعات والصناعات، وهو ما جعل سوق الفروسية العالمي يُقدّر سنويًا بحوالي أكثر من 100 مليار دولار، كما أنه انطلقت في مصر البطولة العربية العسكرية لرياضة الفروسية بحضور الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالعاصمة الإدارية.
ومن هنا يتضح التوجه العالمي نحو هذه الرياضات، إذ إنه وفقًا لرابطة صناعة الرياضة واللياقة البدنية (SFIA)، فقد ارتفعت المشاركة في رياضة ركوب الأمواج بنسبة 28.55% في الولايات المتحدة الأمريكية، إذ يُشارك واحد من كل 100 أمريكي في هذه الرياضة، وهو ما رفع توقعات نمو سوق ألواح التزلُّج على الأمواج عالميًا بمعدل سنوي مركب قدره 11.5% ليصل إلى 4 مليار دولار في عام 2030 بالمقارنة بـ 2.7 مليار دولار في عام 2023 كما يوضح الشكل (1).
(-) حجم الاستثمارات: دفعت الاتجاهات المُتزايدة لنمو أسواق الرياضات الجديدة إلى ارتفاع حجم الاستثمارات بها، ويمكن توزيع هذه الاستثمارات على النحو التالي:
(*) الدول الغربية: تزداد الاستثمارات في قطاع الرياضات الجديدة بشكل كبير في الدول الغربية، ففي سلوفينيا ما يقرب من 80 مليون يورو من الاستثمارات الجديدة موجهة نحو منتجعات التزلُّج، بالإضافة إلى خضوع تسعة منتجات لعملية التحول الجذري بإجمالي استثمارات قدرها 76.5 مليون يورو لتحسين البنية التحتية وتوسيع العروض، إذ أكدت جمعية التلفريك السلوفانية الدور المحوري الذي تلعبه هذه الاستثمارات في تحويل منتجعات التزلُّج إلى وجهات جبلية على مدار العام.
وفي إيرلندا تمول أنشطة رياضة الخيول من قبل وزارة الزراعة والأغذية والبحرية، فوفقًا للخطة الاستراتيجية لرياضة الخيول في إيرلندا 2019-2024، تحتاج هذه الرياضة إلى أكثر من 12 مليون يورو سنويًا لتحقيق أهداف القطاع، وهو ما جعل رياضة الفروسية تشهد نجاحًا كبيرًا في إيرلندا خلال عام 2022، الأمر الذي أهل الفريق الدولي الإيرلندي لدورة الألعاب الأولمبية 2024.
وفي بريطانيا منحت هيئة الرياضة الإنجليزية مؤسسة الفروسية البريطانية منحة تمويلية بقيمة 195 ألف جنيه استرليني لتسهيل أنشطة ركوب الخيل وإشراك الجماهير ذات الأولوية، بما في ذلك الأشخاص الذين يعانون من حالات صحية طويلة الأمد، والأفراد ذوي الإعاقة، فضلًا عن استثمار بقيمة 58.87 ألف جنيه استرليني لمعالجة التحديات وتعزيز النمو في المشاركة.
(*) دول الخليج العربي: في المملكة العربية السعودية تم استثمار حوالي 500 مليار دولار لبناء مدينة المستقبل داخل جبال نيوم، والتي تستضيف منتجع تزلُّج من عام لآخر يسمى "تروينا" لمدة ثلاثة أشهر في السنة. وفي رياضة الفروسية ضخت السعودية استثمارات كبيرة لاستضافة كأس العالم لقفز الحواجز والترويض في أبريل 2024. وفي الإمارات تم افتتاح منتجع تزلُّج "سكي دبي" كجزء من استراتيجية دبي لتقديم تجارب سياحية فريدة من نوعها، إذ من المتوقع أن يتم استثمار حوالي 400 مليون دولار على المنتجع، كما تُعد الإمارات مركزًا عالميًا لرياضة الفروسية، إذ أنها تستثمر حوالي 572 مليون دولار على تدريب الخيول، فهي تضم مراكز رائدة لتربية الخيول العربية.
(*) الدولة المصرية: تتجه الدولة المصرية في الوقت الحالي إلى ضخ استثمارات كبيرة في أنواع عديدة من الرياضات الجديدة، إذ افتتحت نادي الهجن والفروسية في الخارجة بالوادي الجديد بحجم استثمارات يُقدر بحوالي 40 مليون جنيه، كما قامت وزارة الرياضة المصرية بتوقيع بروتوكول تعاون بين إدارة المدرعات واتحاد الفروسية لرعاية 9 بطولات دولية ومحلية. وبالإضافة إلى ذلك تطورت رياضات "قادرون باختلاف" في الدولة المصرية بشكل كبير، مع تأسيس الشركة البارالمبية للاستثمار في المجال الرياضي، بحجم رأس مال يُقدر بحوالي 20 مليون جنيه.
دور القطاع الخاص
يُمكن توضيح دور القطاع الخاص في تحفيز استثمارات الرياضات الجديدة من خلال الآتي:
(-) ضخ استثمارات كبيرة: يعمل القطاع الخاص بشكل أساسي على تسريع نمو القطاع من خلال الاستثمار في الأصول الرياضية العالمية. فقد قامت شركة URJ التابعة لصندوق الاستثمار العام السعودي (PIF) على توطين الأصول الرياضية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إذ استثمرت هذه الشركة مبلغ 100 مليون دولار أمريكي في دوري المقاتلين المحترفين (PFL)، كما انفقت الشركة حوالي 250 مليون يورو لإنشاء دوري دراجات جديد. كما يُعتبر نادي الفروسية من أهم الفرص الاستثمارية المتاحة للمستثمرين المحليين ورواد الأعمال في السعودية، إذ تبلغ تكلفة المشروع حوالي 26.12 مليون ريال سعودي (حوالي 7 مليون دولار أمريكي) بعائد استثماري 10%. وفي مصر تضخ شركة "بيسكاي سوما باي للاستثمار العقاري" حوالي 150 مليون جنيه (2.9 مليون دولار أمريكي) على مشروع "بيسكاي Biscay" على سواحل البحر الأحمر في الغردقة لإنعاش رياضة ركوب الأمواج.
وبالإضافة إلى ذلك، قادت شركة EQTVentures، شركة رأس المال الاستثماري التابعة لمجموعة الأسهم الخاصة السويدية EQT، استثمارا بقيمة 25 مليون دولار أمريكي لمسابقة كرة القدم السداسية الجديدة، قبل إطلاقها في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، وهو ما يوضح دور القطاع الخاص الكبير في تمويل الرياضات المستحدثة في الدول المختلفة.
وفي هذا الإطار أنشأت مؤسسة مورجان ستانلي محفظة جديدة للمستثمرين؛ بهدف تعزيز النمو في مجال الاستثمار الرياضي، إذ إن الحد الأدنى للمشاركة في هذه المحفظة يُقدر بحوالي 250 ألف دولار، فهي ستسمح للشركات الاستثمار في مؤشر الشركات المرتبطة بالرعاية الرياضية والإعلام والإعلان في مختلف الدوريات الرياضية.
(-) تنظيم الأحداث الرياضية الضخمة: لم يستطع القطاع الحكومي بمفرده تنظيم الأحداث الرياضية الكبيرة التي تُقام على أراضي الدول المختلفة، بل يقوم القطاع الخاص بدور كبير في هذا النطاق، إذ تقوم شركة "سوما سبورتس" بتوفير الموارد الأساسية لتنظيم الأحداث الرياضية الكبرى بنجاح، وبالإضافة إلى هذه الشركة توجد شركة "آر سي إس سبورتس آند إيفينتس"، وهي شركة استشارية لتنظيم الفعاليات الرياضية، وشركة "آر سي إس سبورت" المُخصصة لتنظيم فعاليات سباقات الدراجات الاحترافية.
(-) تقديم الدعم اللوجيستي: تُساهم شركات القطاع الخاص في تقديم الخدمات المتكاملة للرياضات المختلفة مثل شركة ميلي التي أطلقت شركة Equine، والتي تُعد أول شركة مصرية مُخصصة فقط لرياضة الفروسية في جميع التخصصات، إذ ستُقدم برامج التدريب وإعادة التأهيل المُصممة خصيصًا لجميع مستويات المهارة، فضلًا عن خدمات رعاية الخيول الشاملة، واستضافة مسابقات الفروسية المحلية والدولية، كما تضطلع شركة "BCLP" في مشاريع التمويل المعقدة في صناعة الرياضة والترفيه، بما في ذلك تمويل الاستحواذ على الأندية وإدراج شركة رياضية في السوق العامة.
الانعكاسات الاقتصادية
يُحقق استحداث رياضات جديدة داخل الدول مجموعة من الانعكاسات الهامة، التي تتمثل في الآتي:
(-) انتعاش قطاع السياحة: هناك علاقة وثيقة بين اهتمام الدول المختلفة بقطاع الرياضة، خاصة الرياضات الجديدة، وبين ازدهار قطاع السياحة، إذ أن الاستثمارات التي تضخها الدول في الرياضات المختلفة تُكوّن مقاصد سياحية جذابة. منتجع سكي دبي أصبح من أهم مناطق الجذب السياحي في الإمارات، وأصبح يجذب الزوار من مختلف دول العالم، كما أن السياحة الرياضية التي تشتمل على حضور الأحداث الرياضية تُنشط قطاع السياحة داخل الدول بشكل كبير، إذ قُدّر حجم هذا السوق في عام 2023 بحوالي 544.38 مليار دولار أمريكي، ومن المتوقع أن يرتفع إلى 2.09 تريليون دولار أمريكي في عام 2032 وفقًا للشكل (2). وقد سيطرت أوروبا على السياحة الرياضية بحصة سوقية بلغت 40.34% في عام 2023، فقد شهدت القارة بطولة دوري الأمم الأوروبية للمنتخبات، وكونجرس فيفا النسخة الثالثة والسبعين في العاصمة الرواندية، وهو ما جعلها كما يوضح الجدول (1) تستقطب 709.4 مليون سائح (54.6%)، مقارنة بـ 237.2 مليون سائح (18.2%) في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وبـ 200.2 مليون سائح في أمريكا(15.4%).
(-) جذب الإيرادات الدولارية: تجذب استضافة الدول المختلفة لأحداث الرياضات الجديدة إيرادات دولارية كبيرة، إذ بلغ مجموع جوائز رعاية سبورتس بوليفارد الرسمية لكأس السعودية أكثر من 37.35 مليون دولار في عام 2024، بزيادة قدرها 2 مليون دولار مقارنة بعام 2023.
وفي فنلندا، يجلب قطاع الرياضة والتطور الذي يحدث فيه المليارات من اليوروهات كعائدات سنوية. كما أنه وفقًا لتقرير Cognitive Market Research، قُدّرت إيرادات سوق الفروسية العالمي بحوالي 2.26 مليار دولار في عام 2024.
واحتلت منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا حوالي 2% من الإيرادات العالمية، أي بحجم إيرادات تُقدّر بحوالي 45.22 مليون دولار أمريكي كما يوضح الشكل (3). ومن المتوقع أن تنمو هذه الإيرادات بشكل كبير مع تزايد رياضات الفروسية وركوب الأمواج في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
(-) ارتفاع المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي: يترتب على الجذب الاستثماري الهائل في الرياضات الجديدة زيادة مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الإجمالي للدول المختلفة، ففي المملكة العربية السعودية، مع اتجاه الاستثمارات نحو الرياضات الجديدة، ساهم القطاع بحوالي 6.9 مليار دولار أمريكي في عام 2024، وهو الرقم الذي من المتوقع أن يصل إلى 16.5 مليار دولار أمريكي في عام 2030، أي ما يُعادل 1.5% في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، كما تُساهم رياضة الخيول بحوالي 50 مليار دولار سنويًا في الاقتصاد الأمريكي. ومع الاهتمام الكبير في الدولة المصرية بهذا القطاع، من المتوقع أن يُساهم بنسبة 3% في الناتج المحلي الإجمالي في عام 2030.
(-) تنمية قطاع التشغيل: يوظف قطاع الرياضة، خاصة الرياضات الجديدة، عددًا كبيرًا من العمالة. إذ تُساهم رياضة الخيول في توفير حوالي 1.6 مليون وظيفة، منهم حوالي 988.4 ألف وظيفة في الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى ذلك، ووفقًا لدراسة أجرتها جامعة جريفيث في كوينزلاند باستراليا عام 2023، فإن رياضة ركوب الأمواج تُحفّز إنتاجية العمل بنسبة 10%، وهو الأمر الذي يزيد إنتاجية الدول المختلفة.
وعليه، يُمكن القول إن الدول المختلفة باتت تتجه نحو تنويع اقتصاداتها من خلال زيادة الاستثمارات الرياضية بمختلف أشكالها، فقطاع الرياضة أثبت أنه قطاع قادر على تحقيق التنمية المستدامة، حتى في الدول التي تنعم بإيرادات نفطية كبيرة، فهذه الإيرادات توصف بـ"الريعية"، بمعنى أنها من الممكن أن تتوقف في وقت ما، بشكل يجعلها لا يمكن الاعتماد عليها في إحداث التنمية؛ وهو ما دفع دول الخليج العربي إلى توجيه استثمارات ضخمة في القطاع الرياضي، خاصة في الرياضات الجديدة والمستحدثة مثل الفروسية وركوب الأمواج والتزلّج. إذ إن ارتفاع العائد على الاستثمارات الرياضية الذي يصل إلى 2 دولار لكل دولار واحد، سيفيد الدول المختلفة على مستوى الموازنات العامة، وجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية.