الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

مونديال قطر نموذجا.. انعكاسات ودلالات استخدام الرموز السياسية في المحافل الرياضية

  • مشاركة :
post-title
تميمة المونديال "لعيب"

القاهرة الإخبارية - د. مبارك أحمد

تشكل العلاقة بين كرة القدم والسياسة رافدًا رئيسيًا يمكن من خلاله التعرف على الهوية الوطنية للمنتخبات المشاركة في البطولات الدولية لكرة القدم، وطبيعة الثقافة السياسية التي يتبناها جمهور المشجعين في المدرجات وأماكن استضافتهم، كما أنها تعكس أنماط المشكلات السياسية التي تعاني منها تلك الدول المشاركة، سواء على المستوى الداخلي أو على مستوى علاقاتها الخارجية، والتي تعكسها علاقات الجماهير ببعضهم البعض داخل المدرجات أو من خلال ما يرفعونه من لافتات خلال تشجيعهم لفرقهم. لذلك ومنذ انطلاق بطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر منذ 20 نوفمبر 2022 وهناك استخدام للعديد من الرموز السياسية التي تحمل رسائل متنوعة.

رؤى متباينة:

هناك اتجاهان رئيسيان في شأن العلاقة بين كرة القدم والسياسة أولهما، يرفض أن تكون الملاعب مجالًا للتوظيف السياسي للعلاقات بين الدول أو تصفية الحسابات ما بين القوى المتنافسة أو المتصارعة داخل الدولة الواحدة. ومبرر هذا الاتجاه أن طغيان السياسة على مباريات كرة القدم باعتبارها اللعبة ذات الجماهيرية الواسعة يُفقدها المتعة الفنية، ويزج بها في تصنيفات كونها "أفيون" الشعوب التي تستخدم في إلهاء الجماهير عن القضايا المؤثرة على واقعهم.

مصافحة الرئيس المصري ونظيره التركي ويتوسطهما أمير قطر

أما الاتجاه الثاني، فيرى صعوبة الفصل بين كرة القدم والسياسة، لا سيما أن البطولات الدولية لكرة القدم، منذ نشأة الاتحاد الدولي لكرة القدم في 21 مايو 1904 في فرنسا ومقره زيورخ بسويسرا، وقرار الفيفا بتدشين مسابقة كأس العالم لكرة القدم، والتي استضافتها لأول مرة الأورجواي عام 1930 لم تخل من رسائل سياسية خلال البطولات المتتالية، ومنها على سبيل المثال: انسحاب الدول الإفريقية والآسيوية من مونديال 1958 بالسويد نظرًا لمشاركة إسرائيل، وحرمان جنوب إفريقيا من المشاركة في مونديال 1966 بالمملكة المتحدة حتى انتهاء سياسة التمييز العنصري التي مارسها البيض ضد السود، وعدم السماح ليوغسلافيا بالمشاركة في فعاليات مونديال 1994 بالولايات المتحدة الأمريكية بسبب العقوبات الدولية المفروضة عليها على خلفية حربها في البوسنة والهرسك وممارسات التطهير العرقي. وفي مونديال قطر 2022 جاءت الرسائل السياسية لتتناول تفاعلات الرياضة مع السياسة بأحداثها الجارية: منها دبلوماسية الرياضة التي تجسدت في لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان على هامش افتتاح البطولة، وانتفاضة الشباب في إيران، والحرية بمفهومها الغربي في سلوك الفرق الرياضية المشاركة في البطولة، فضلًا عن رمزية التضامن العربي التي عكستها مشاركة عدد من الرؤساء والقادة العرب في افتتاح البطولة.

دلالات متعددة:

تنوعت دلالات الرموز السياسية التي تم توظيفها خلال فعاليات مونديال قطر، ومن أبرز تلك الرموز:

(*) تميمة المونديال: جاءت تميمة مونديال قطر 2022 بمثابة" لعيب" يرتدى "الغترة والعقال" ويمارس رقصة "العارضة"، ليعكس ملامح البيئة الخليجية والعربية التي تقام على أراضيها البطولة. وتهدف الدولة المنظمة للبطولة من توظيف التميمة، لإضفاء جو من التشويق والحماس بين الجماهير، واستخدام تلك التميمة في عمليات التسويق، فضلًا عن كونها تذكارًا يُضاف إلى تاريخ البطولة ومكان إقامتها.

شارة الكوفية الفلسطينية

(*) ارتداء الكوفية الفلسطينية: ارتدى العديد من المشجعين، لا سيما مشجعي المنتخبات العربية، في البطولة الكوفية الفلسطينية، والتي تجسد رمزًا لقضية فلسطين في كل أنحاء العالم. وتجدر الإشارة إلى أن وزارة التربية والتعليم الفلسطينية قررت منذ عام 2015 أن يكون يوم السادس عشر من نوفمبر يومًا لـ"الكوفية الفلسطينية" يتوشح فيه الطلبة والمدرسون والموظفون بالكوفية باعتبارها رمزًا للهوية الوطنية الفلسطينية، وتجسيدًا للحلم العربي باستعادة الأرض.

(*) ارتداء زي القديس جورج: شارك عدد من مشجعي منتحب بريطانيا خلال المباراة مع منتخب الولايات المتحدة الأمريكية، وهم يرتدون زي القديس جورج، بما يحمله من خوذات وصلبان وسيوف بلاستيكية، والتي تشير إلى ظاهرة الحروب الصليبية. وقد وصف الاتحاد الدولي لكرة القدم الفيفا تلك الأزياء بأنها "مسيئة"، وطالب مسؤولو الفيفا، وفق تصريحاتهم، من المشجعين تغيير تلك الملابس أو تغطية الأجزاء التي عليها رموز صليبية.

فتاه إيرانية تحمل إسم مهسا أميني على قميص للمنتخب

(*) رمزية مهسا أميني: رفع المشجعون الإيرانيون لافتات تحمل صورًا لـ"مهسا أميني" الفتاة التي قيل إنها توفيت في 16 سبتمبر 2022 على يد شرطة الأخلاق في إيران، واعتبرتها بعض التحليلات -أحد الأسباب- ضمن عوامل أخرى أدت إلى انتفاضة الشباب ضد النظام في إيران، كما رفع المشجعون أيضًا شعارات عن المرأة والحياة والحرية في إيران، وجاء تقرير نشرته صحيفة "اعتماد" الإيرانية الإصلاحية، بعد فوز المنتخب الإيراني على منتخب ويلز لتحلل عمق الأزمة المجتمعية في إيران، بالقول إنه كان من المتوقع كما في السنوات الماضية أن يكون فوز منتخب إيران وسيلة للمصالحة الوطنية بين المتخاصمين السياسيين، بل إن فوز المنتخب ضاعف من الاستقطاب في إيران، وعزوف الأغلبية عن المشاركة في الاحتفالات. كما اعتبرت بعض التحليلات، بأن مباراة كرة القدم بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران يوم 29 نوفمبر 2022 ستكون مشحونة من الناحية السياسية بين الخصمين الجيوسياسيين، وستمثل إعادة لمباراة كأس العالم بينهما عام 1998 بفرنسا، والتي فازت فيها إيران وأطلق عليها "أم" مباريات كرة القدم، وبرغم ذلك فإن مدرب المنتخب الأمريكي بيرهالتر أكد أن السياسة لن يكون لها مكان في مباراة منتخبه مع إيران برغم التوترات القائمة بين البلدين.

(*) احترام المنظومة القيمية والأخلاقية: ترتبط المنظومة القيمية والأخلاقية بطبيعة الدولة المستضيفة للبطولة، ولما كانت القيم والتقاليد العربية والإسلامية لها منظومتها الأخلاقية، بما يعني أن تحترم المنتخبات المشاركة وجماهيرها في المدرجات إقامة البطولة في بلد عربي وإسلامي، فإن قرارات الفيفا جاءت لتراعي ذلك الجانب سواء فيما يخص بيع المشروبات الكحولية في الملاعب ومحيطها واقتصار البيع على مناطق المشجعين، مرورًا بقضية المثليين ووصولًا لأزياء المشجعين، وحدود تحررها.

أمير قطر الشيخ تميم بن حمد وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في افتتاح كأس العالم

(*) محورية رابطة العروبة: جاءت مشاركة عدد من القادة العرب في فعاليات افتتاح كأس العالم لكرة القدم بقطر 2022، لتعكس محورية البُعد العربي، فقد شارك كل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، والعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، ونائب رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن راشد، وولى عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان. وهو ما يعكس في مجمله نوعًا من المساندة العربية لإنجاح البطولة التي تقام على أرض عربية لأول مرة، وهي الرمزية التي انتقلت إلى صفوف المشجعين العرب في المدرجات والمشاهدين أمام الشاشات وتشجيعهم للفرق العربية المشاركة في البطولة بكل حماس، وقد تجلت تلك الروح العربية الأصيلة في ابتهاج المشجعين في المنطقة العربية بفوز المنتخب السعودي في مباراته مع الأرجنتين، وفوز منتخب المغرب في مباراته مع بلجيكا.

(*) نزيف المواهب الرياضية: تعكس بطولات كرة القدم الدولية بشكل عام ما اعتادت عليه دول الشمال في استقدام المواهب الرياضية من الدول النامية من خلال أكاديميات منتشرة في جميع دول العالم النامي. وهو الأمر الذي جعل العديد من منتخبات الدول المشاركة في بطولة قطر الدولية لكرة القدم 2022 تمنح جنسيتها للاعبين من دول أخرى، وقد ظهر ذلك في مشاركات العديد من اللاعبين مع منتخبات مثل فرنسا، وقطر.

مجمل القول، إن الرسائل السياسية في البطولة الدولية لكرة القدم بقطر 2022 عكست الأزمات والنجاحات السياسية التي تعيشها المجتمعات في جميع أنحاء العالم، وأن المونديال الذي يتابعه سكان القارات المختلفة يُشكل منصة عالمية تصل منها تلك الرسائل بسرعة فائقة. أما جدوى تلك الرسائل السياسية فستتوقف على مدى قدرة المتلقّين لتلك الرسائل على التفاعل معها. وهو الأمر الذي يتطلب أن تظل بطولات كرة القدم مجالًا أرحب للتنافس بين المنتخبات الرياضية، بما يسهم في تعزيز القواسم المشتركة بين الشعوب، ونبذ الخلافات والتعصب، والتحلي بالروح الرياضية التي يجب أن تشكل مدخلًا مناسبًا في الحد من الكراهية بين المجتمعات وإعلاء قيم التسامح وقبول الآخر.