في خطوةٍ تعكس تحولاً في المشهد السوري، تستعد فرنسا لإعادة ترتيب أوراقها في دمشق، بعد غياب دام اثنى عشر عامًا. في هذا الصدد، كشفت صحيفة "إكسبريس" الفرنسية عن الخطوات الدبلوماسية الحذرة التي تتخذها باريس في التعامل مع الواقع السوري الجديد، وسط تسابق إقليمي ودولي محموم للتموضع في سوريا ما بعد الأسد.
المشهد الدبلوماسي الجديد
في الوقت الذي تسارعت فيه العواصم الإقليمية والدولية نحو دمشق، اختارت فرنسا نهجًا أكثر تأنٍّ وحذرًا، إذ أرسلت باريس أول بعثة دبلوماسية لها إلى العاصمة السورية منذ اثني عشر عامًا، في خطوة وصفها وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو بأنها تستهدف "إقامة اتصالات أولية" مع السلطات الجديدة والتحقق من مصداقية تصريحاتهم "المطمئنة نسبيًا".
وعلى المستوى الإنساني، تركز المهمة على تقييم احتياجات الشعب السوري وآليات تقديم المساعدات الضرورية. واختارت فرنسا أن تكون مهمة البعثة قصيرة المدى، لا تتجاوز 24 ساعة، مع التركيز على المستوى التقني دون الدخول في اتصالات رفيعة المستوى، في إشارة إلى رغبة باريس في التأني وعدم استباق النتائج.
وتتألف البعثة من أربعة دبلوماسيين، من بينهم المبعوث الخاص لسوريا جان فرانسوا جيوم، الذي يتمتع بخبرة واسعة في المنطقة العربية، حيث عمل سابقًا في الرياض وبغداد وبيروت.
استراتيجية فرنسية متميزة
كشفت "إكسبريس" أن الدبلوماسية الفرنسية تتمتع بميزة فريدة في المشهد السوري الجديد، فعلى عكس القوى الأوروبية الأخرى، لم تساوم فرنسا على مواقفها المبدئية تجاه نظام الرئيس السابق بشار الأسد منذ بداية الحرب الأهلية قبل اثني عشر عامًا.
وحافظت باريس على علاقات وثيقة مع المعارضة السورية والمجتمع المدني، عبر مبعوثيها في المنطقة.
ويؤكد برتران بيزانسينو، السفير الفرنسي السابق في قطر والسعودية، أن هذا الموقف الثابت يمنح فرنسا مصداقية خاصة في المرحلة الحالية، بحسب الصحيفة.
التحديات الأمنية والاستراتيجية
تواجه فرنسا تحديات أمنية واستراتيجية معقدة في سوريا الجديدة، إذ إن المخاوف الفرنسية تتركز على مصير آلاف الإرهابيين المعتقلين من تنظيم "داعش"، بينهم عشرات المواطنين الفرنسيين، المحتجزين في السجون الخاضعة للسيطرة الكردية في شمال شرق سوريا.
كما تخشى باريس من تداعيات عودة مقاتلي حزب الله إلى لبنان، وتأثير ذلك على استقرار المنطقة.
وتسعى فرنسا، التي عملت مع الولايات المتحدة على تحقيق وقف إطلاق نار في لبنان، إلى تجنب زعزعة استقرار هذا البلد، خاصة مع عودة مقاتلي حزب الله إلى لبنان بعد سنوات من القتال في سوريا، وتأثير ذلك على التوازنات الإقليمية الدقيقة، وفقًا للصحيفة.
مستقبل العلاقات الفرنسية السورية
تمتلك فرنسا، وفقًا لميشيل دوكلو، المستشار الخاص في معهد مونتين والسفير السابق في سوريا، عدة أوراق قوة في المشهد السوري.
فإلى جانب غياب الماضي السلبي مع السلطات الجديدة، تتمتع فرنسا بإرث تاريخي في سوريا، حيث كانت البلاد لفترة طويلة متأثرة بالثقافة الفرنسية واللغة الفرنسية.
كما أن مكانة فرنسا كعضو دائم في مجلس الأمن يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة لدمشق في المستقبل.
نحو انتقال سياسي شامل
تسعى فرنسا إلى دفع عملية انتقال سياسي "شامل" في سوريا، وقد حددت شروطها للتعامل مع السلطات الجديدة خلال قمة العقبة في الرابع عشر من ديسمبر.
وتشمل هذه الشروط احترام حقوق الأقليات وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، إضافة إلى مواصلة مكافحة الإرهاب.
وتأمل باريس في تجنب تكرار السيناريو الليبي، إذ أدى سقوط نظام معمر القذافي إلى حرب أهلية وانقسام البلاد، وتركز الدبلوماسية الفرنسية على أهمية الحفاظ على مؤسسات الدولة والجيش السوري لمنع تحول القادة العسكريين إلى أمراء حرب.
وتختتم "إكسبريس" بالإشارة إلى أن فرنسا، رغم تأخرها عن بعض العواصم في التواصل مع دمشق، تمتلك فرصة حقيقية للعب دور مؤثر في المرحلة المقبلة. ويعزز هذه الفرصة علاقاتها القوية مع قطر والسعودية، اللتين من المتوقع أن يكون لهما دور مهم في إعادة إعمار سوريا وتحقيق الاستقرار فيها.
وعززت الزيارة الأخيرة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الرياض من هذه العلاقات، حيث تم بحث سبل التعاون في ملفات عدة، منها استقرار لبنان ومكافحة الإرهاب.