تشكل المحكمة الجنائية الدولية منصة عالمية لتحقيق العدالة في وجه جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، لكن مواقف الدول الكبرى تجاه قراراتها تُظهِر أحيانًا ازدواجية لافتة، فالولايات المتحدة -التي تُعد من أبرز الفاعلين في النظام الدولي- أبدت مواقف متناقضة تجاه قرارات المحكمة، ما يعكس تداخل القانون الدولي بالمصالح السياسية.
في هذا التقرير، نستعرض الموقف الأمريكي من مذكرات اعتقال صدرت بحق قادة دوليين مثل الزعيم الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش، مقابل مواقف مغايرة تمامًا من مذكرات اعتقال بحق قادة إسرائيليين وعلى رأسهم رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو.
دعم أمريكي مشروط
في مارس 2023، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على خلفية الصراع في أوكرانيا، وأعلنت حينها الإدارة الأمريكية ترحيبها الشديد بهذا القرار، فوصف الرئيس جو بايدن القرار بأنه "يطرح نقطة قوية للغاية رغم أن المحكمة لا تتمتع بسلطة قضائية في الولايات المتحدة".
كذلك كامالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي، أكدت في فبراير 2023 أن المسؤولين عن جرائم الحرب "سيحاسبون"، واعتبرت واشنطن القرار تعزيزًا لمحاسبة موسكو على الانتهاكات المزعومة، وسط دعمها العلني للمحكمة في هذه القضية.
ميلوسيفيتش.. عدالة بدعم أمريكي
تجربة الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش تعكس دور الولايات المتحدة في دعم العدالة الدولية عندما يتماشى ذلك مع مصالحها، ففي عام 1999، اتهمت المحكمة الجنائية الدولية ميلوسيفيتش بارتكاب جرائم تطهير عرقي وجرائم ضد الإنسانية.
ففي عام 1993، وبينما كانت الحرب لا تزال مستمرة في البوسنة، أنشأ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة محكمة خاصة، أطلق عليها اسم المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، للنظر في الجرائم المرتكبة خلال الحروب الإقليمية.
لكن "ميلوسيفيتش" كان لا يزال في السلطة عندما صدرت لائحة الاتهام، وكانت حكومته تحميه من الاعتقال، وخسر ميلوسيفيتش الانتخابات الرئاسية في أواخر سبتمبر 2000، وبعد احتجاجات واسعة النطاق، تنحى عن منصبه.
ووعدت الولايات المتحدة الحكومة الديمقراطية الجديدة في صربيا بتقديم مساعدات اقتصادية كبيرة لتسريع تعافيها بعد الحرب، وساعد هذا في دفع الحكومة الصربية إلى اعتقال ميلوسيفيتش ثم نقله إلى المحكمة الدولية في يونيو 2001، وبدأت محاكمته في فبراير 2002، لكنه توفي في السجن في عام 2006، قبل وقت قصير من انتهاء محاكمته.
موقف أمريكا من اعتقال نتنياهو
في تحول لافت، رفضت الولايات المتحدة بشكل صارم قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت، المتهميْن بارتكاب جرائم حرب في غزة.
ووصف "بايدن" وصف القرار بأنه "شائن"، مؤكدًا أن بلاده "ستقف دائمًا إلى جانب إسرائيل"، وقال في بيانٍ، إنّ "إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات توقيف بحقّ مسؤولين إسرائيليين أمر شائن، دعوني أوضح الأمر مرة أخرى: أيًا يكن ما قد تلمّح إليه المحكمة الجنائية الدولية، فليست هناك أيّ مساواة، بتاتًا بين إسرائيل وحماس، وسوف نقف دومًا إلى جانب إسرائيل ضدّ التهديدات التي يتعرّض لها أمنها"، وفقًا لما ذكرته "فرانس برس".
وقال المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض: "إن الولايات المتحدة ترفض رفضًا قاطعًا قرار المحكمة بإصدار أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين كبار، ونحن نشعر بقلق عميق إزاء استعجال المدعي العام في السعي للحصول على أوامر اعتقال والأخطاء الإجرائية المزعجة التي أدت إلى هذا القرار".
ازدواجية واضحة
رغم دعمها للمحكمة في قضايا مثل روسيا وصربيا، تبنت واشنطن موقفًا مغايرًا تجاه إسرائيل، وحذرت من أن مذكرات الاعتقال، تهدد اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، ما يعكس مراعاة المصالح السياسية على حساب الالتزام بالمبادئ القانونية الدولية.
وأثارت المواقف المتناقضة للولايات المتحدة تساؤلات حول استقلالية المحكمة الجنائية الدولية وقدرتها على تنفيذ قراراتها دون تسييس، فأكد الاتحاد الأوروبي، عبر وزير خارجيته جوزيب بوريل، أن قرارات المحكمة ليست سياسية، داعيًا إلى احترامها وتنفيذها.
وتزداد الضغوط على المحكمة مع استمرار الانقسامات الدولية حول قراراتها، ما يقوض ثقة المجتمع الدولي في العدالة الدولية.
وتظهر المواقف الأمريكية المتناقضة إزاء المحكمة الجنائية الدولية تداخلًا بين العدالة والمصالح السياسية، بينما دعمت واشنطن المحكمة في قضايا مثل بوتين وميلوسيفيتش، أبدت معارضة قوية عندما تعلق الأمر بإسرائيل.
هذه الازدواجية لا تعكس فقط تناقضًا في السياسة الأمريكية، بل تضع المحكمة أمام تحديات كبيرة في الحفاظ على مصداقيتها واستقلاليتها، ويبقى السؤال: هل يمكن تحقيق العدالة الدولية في عالم تتحكم فيه المصالح السياسية؟ الإجابة تظل مرهونة بإرادة المجتمع الدولي وقدرته على فصل القانون عن السياسة.