في عالم تتصارع فيه العدالة مع المصالح السياسية، تبرز المحكمة الجنائية الدولية كلاعب أساسي في ملاحقة مرتكبي الجرائم الكبرى، فإصدارها مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت يمثل سابقة تاريخية، لكنها تواجه تحديات قانونية ودبلوماسية، منها كيف ستتعامل الدول الأوروبية مع هذه القضية التي تختبر التزامها بسيادة القانون الدولي، خاصة بعد الترحيب الأوروبي بقرار سابق طالب باعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، على خلفية الحرب الروسية الأوكرانية.
اتهامات نتنياهو وجالانت
أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وجالانت، بناءً على أدلة ترجح تورطهما في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وتشمل التهم منع المساعدات الإنسانية عن غزة، ما يشكل جريمة حرب باستخدام التجويع كأداة حرب، وجرائم ضد الإنسانية، منها القتل والاضطهاد والأعمال اللاإنسانية، وتوجيه هجمات متعمدة على السكان المدنيين في مناسبتين على الأقل.
التزام الأعضاء بتنفيذ الأوامر
بموجب نظام روما الأساسي، تلتزم جميع الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية باعتقال الأفراد الصادرة بحقهم مذكرات اعتقال إذا دخلوا أراضيها، وأعلنت دول مثل فرنسا وأيرلندا وهولندا استعدادها للالتزام بهذه الأوامر، ما يعكس دعمها الواضح لسيادة القانون الدولي.
وتضم المحكمة الجنائية الدولية 124 دولة عضوًا، بما في ذلك 33 دولة من إفريقيا، و19 دولة من أوروبا الشرقية، و25 دولة من أوروبا الغربية، لكن دولًا أخرى مثل كندا، والولايات المتحدة وإسرائيل ليست عضوًا بها.
أوروبا تعلن التزامها باعتقال نتنياهو
من جهته، قال وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل إن مذكرات الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو وجالانت ليست سياسية، وإن على جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي احترام قرار المحكمة وتنفيذه.
وصادقت جميع دول الاتحاد الأوروبي على معاهدة نظام روما الأساسي، إذ أعلنت كل من هولندا وسويسرا وأيرلندا وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا والنرويج والسويد والنمسا أنها ستفي بالتزاماتها والتزاماتها فيما يتصل بنظام روما والقانون الدولي.
ردود الفعل الدولية
وحسب تقرير لـ"المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"، تواجه المحكمة الجنائية الدولية ضغوطًا سياسية مكثفة نتيجة هذه الخطوة الجريئة، خصوصًا من حلفاء إسرائيل مثل الولايات المتحدة.
وانتقدت إدارة الرئيس الأمريكي الحالي القرار، بينما أبدى مستشار الأمن القومي المحتمل لدونالد ترامب، مايك والتز، استعدادًا للرد بقوة، واصفًا المحكمة بأنها متحيزة ومعادية للسامية.
ويتعين على الدول الأوروبية، التي دعمت مذكرة الاعتقال الصادرة بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مارس 2023، أن تحافظ على مصداقيتها من خلال تنفيذ التزاماتها تجاه المحكمة الجنائية الدولية، فدعم المحكمة يجب أن يكون ثابتًا، حتى من الدول المؤيدة لإسرائيل، لتجنب تقويض شرعيتها.
أوروبا ونتنياهو
ينبغي أن تؤثر مذكرات الاعتقال على كيفية تعامل المسؤولين الأوروبيين مع نتنياهو، سواء في إسرائيل أو أثناء زيارته لدول أخرى، منها تقليل الاتصال الدبلوماسي، إذ يمكن تبني سياسة الحد من التواصل غير الضروري، كما حدث مع الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا، الذي وُجهت إليه تهم دولية مشابهة.
وكذلك تجنب الشرعية السياسية، إذ يجب تجنب منح أي انطباع بأن نتنياهو يتمتع بحصانة سياسية أو قانونية، لضمان الحفاظ على مبادئ العدالة الدولية.
مواجهة الضغوط الأمريكية
من المرجح أن تواجه المحكمة الجنائية الدولية حملة انتقادات وربما إجراءات عقابية من إدارة ترامب المقبلة، وحسب "المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"، يجب على الاتحاد الأوروبي توضيح دعمه الثابت للمحكمة ورفض أي محاولات لتقويضها، كما ينبغي أن يتخذ موقفًا صريحًا في مواجهة الضغوط الأمريكية، مع التأكيد على استقلال المحكمة وضرورة حماية مسؤوليها.
وتعد مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنياهو وجالانت خطوة فارقة في مسار العدالة الدولية، لكنها أيضًا اختبار لقدرة الدول الأوروبية على الالتزام بمبادئ القانون الدولي في وجه المصالح السياسية.
في النهاية، سيحدد هذا الصراع بين العدالة والسياسة مدى قوة واستقلالية المحكمة الجنائية الدولية كأداة لتحقيق السلام والمساءلة في العالم.