في خضم التحركات التي يقوم بها محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء العراقي، والأجهزة الأمنية والعسكرية العراقية لإعادة الأمن والاستقرار إلى بلاد الرافدين، لمواجهة التدخلات الإيرانية والتركية الأخيرة لاستهداف الأكراد بإقليم كردستان العراق؛ يظهر تنظيم "داعش" الإرهابي بشن هجمات متعددة على مواقع متفرقة لاستهداف المدنيين والعسكريين العراقيين، في محاولة للعودة مرة أخرى إلى إيجاد موطئ قدم داخل الدولة العراقية واستعادة الأراضي التي كان يسيطر عليها، خاصة خلال العامين 2014 و2017، لإثبات أنه لا يزال قادرًا على تهديد أمن واستقرار العراق، مستغلًا الأزمات السياسية والاقتصادية التي تمر بها الدولة العربية.
هجمات متصاعدة:
وصعَّد تنظيم داعش الإرهابي أواخر العام 2022 من وتيرة هجماته داخل الأراضي العراقية كرد فعل على عمليات الشرطة والجيش ضده، خاصة خلال الشهر الماضي الذي يمكن أن نطلق عليه "ديسمبر الحزين"، وشهد سلسلة من الهجمات، كان آخرها في 22 ديسمبر الماضي، إذ شن مسلحو التنظيم هجومين على مواقع تمركز لقوات الجيش العراقي في شمال البلاد، الهجوم الأول نُفذ بإطلاق عبوة ناسفة على مركبة للقوات العراقية بمحافظة نينوى شمالي العراق، وهو ما أدى لمقتل جندي وإصابة خمسة آخرين، ومساء اليوم ذاته، وقع الهجوم الثاني، إذ أطلق عناصر داعش عبوة ناسفة على جنود عراقيين في قرية السحل بمحافظة كركوك، نجم عنه مقتل جنديين وإصابة ثلاثة آخرين.
أما في 18 ديسمبر الجاري، شن مسلحو داعش هجومًا وصف بأنه "الأكثر دموية" من الهجمات التي شنها التنظيم الإرهابي خلال الأشهر الأخيرة في بلاد الرافدين، إذ استهدف من خلال إطلاق عبوة ناسفة وأسلحة خفيفة ومتوسطة، ناقلة تقل أفراد من الشرطة الاتحادية العراقية في قرية شلال المطر بكركوك، وهو ما أدى لمقتل 9 عسكريين، وفي نفس اليوم، استهدف الإرهابيون إحدى القرى التابعة لمحافظة ديالي شرقي العراق، وقُتل 8 أشخاص من المدنيين. ومن أبرز الهجمات التي شنها عناصر التنظيم الإرهابي كانت في 19 نوفمبر الماضي، إذ وقعت عمليتان إرهابيتان على أماكن تمركز قوات عراقية في محافظتي كركوك وديالي، نجم عنهما مقتل 10 جنود عراقيين.
استراتيجية المواجهة:
وبناءً على ما تقدم، فإن رئيس الوزراء العراقي يتحرك منذ توليه رئاسة الحكومة أواخر أكتوبر الماضي، في عدة مسارات من أجل مواجهة الهجمات الإرهابية المتصاعدة لتنظيم "داعش"، الساعي لإعادة مخططه بشأن إقامة دولته بالعراق لتكرار النموذج الطالباني ولكن في الأراضي العراقية، إلا أن "السوداني" حتى الآن يقف بـ"المرصاد" لهذا التنظيم من خلال ملامح استراتيجية يمكن توضيحها على النحو التالي:
(*) تغييرات هيكلية في القيادات الأمنية والعسكرية: وضع رئيس الوزراء العراقي عقب توليه مهام الحكومة، برنامجًا احتوى على خمسة محددات للنهوض بأوضاع البلاد على المناحي كافة، من بينها إعلان الحرب على الإرهاب ومواجهة الأعمال الإرهابية التي تهدد أمن واستقرار بلاد الرافدين، وشدد على دعمه الكامل للأجهزة الأمنية والعسكرية، بما يضمن تحقيقها نجاحات على تنظيم داعش الإرهابي، وما يؤكد جديته تلك أنه عقب الهجمات المتتالية التي شنها الأخير، أصدر "السوداني" في 25 ديسمبر الجاري، قرارات تقضي بتغيير بعض القياديين الميدانيين وتعيين آخرين لديهم القدرة على دحر إرهاب داعش، أهمهم الفريق الركن "قاسم نزال" الذي تم تكليفه لتولي مهام مساعد رئيس أركان الجيش العراقي.
إضافة إلى أنه خلال اجتماع مع القيادات العسكرية العراقية، في 21 ديسمبر الجاري، شدد "السوداني" على ضرورة وضع "خطة شاملة" تحتوي على أساليب غير تقليدية للتمكن من شن عمليات استباقية على أماكن تمركز التنظيم الإرهابي، بجانب ذلك أصدر مجلس الأمن الوزاري العراقي، 24 نوفمبر الماضي، قرارًا يقضي بإعادة نشر القوات العراقية على الحدود لمواجهة أي تهديدات داخلية وخارجية.
(*) تقوية دور الأجهزة الاستخباراتية لدحر الإرهاب الداعشي: من ضمن المسارات الهادفة لمواجهة تصاعد الهجمات الداعشية، العمل على تعزيز وتقوية دور المخابرات العراقية، وهو ما أكده اللواء خالد المحنا، المتحدث باسم الداخلية العراقية، 26 ديسمبر الجاري، قائلًا: "هناك إرادة لدى الحكومة ووزارة الداخلية لرفع الفاعلية، من خلال خطة وإجراءات منسقة لدعم أجهزة الاستخبارات والقطعات الأمنية، والتنسيق مع القوة الجوية لتنفيذ ضربات موجعة لعصابات داعش الإرهابية"، لأن تنفيذ ذلك بدقة وفعالية سيسهم في تحديد أماكن تمركز التنظيم الإرهابي وخلاياه النائمة بسهولة ومن ثم تكبيدهم خسائر فادحة.
وهو ما نجحت فيه أجهزة الاستخبارات العراقية خلال الفترة الأخيرة، بشنها عمليات استباقية ونوعية في بعض المناطق النائية خاصة في محافظات صلاح الدين وكركوك، وصولًا إلى نينوى والأنبار العراقية، وكان آخر تلك النجاحات في 28 ديسمبر الجاري، إذ تمكنت قيادة العمليات المشتركة العراقية بالتعاون مع مديرية الاستخبارات العسكرية من رصد وتدمير "وكرين" كان بهم 10 عناصر تابعين لتنظيم داعش في محافظة ديالي شمال شرق العراق بواسطة طائرات "إف 16"، ومن ضمن نجاحات القوات العراقية أيضًا ضبط ستة أنفاق أنشأها تنظيم "داعش" الإرهابي بقرية "المتياها" بمحافظة نينوى شمال العراق في 27 ديسمبر الجاري.
(*) تعزيز التعاون المشترك مع القوى الأمريكية والأوروبية لمكافحة الإرهاب: تحرك "السوداني" للتوصل مع الخارج من خلال إعلان أنه جاد في مواجهة الإرهاب بالداخل، لكنه يريد دعم القوى الخارجية حتى يسهل النجاح في تلك المهمة، واستجابة أمريكا على الفور، إذ أعلنت عقب تولي الحكومة العراقية مهامها، أنها لن تتخلى عن العراق وستدعمه في الحرب على الإرهاب، فوفقًا جينيفر غافيتو، لنائبة مساعد وزير الخارجية الأميركي، أواخر أكتوبر الماضي، فإن الرئيس الأمريكي "جو بايدن"، لن يكرر تجرية انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، وسيطرة حركة طالبان على السلطة في أغسطس 2021، وسيدعم بلاد الرافدين لتحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وهذه الرسالة ذاته أكدتها ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، خلال مباحثاتها مع رئيس الوزراء العراقي في 20 نوفمبر الحالي، لتعزيز التعاون بين واشنطن وبغداد في مجال مكافحة الإرهاب، قائلة: "عراق يحارب الفساد ويخلق فرص العمل، وعراق مستقر من خلال مؤسسات أمنية حكومية قوية وخالٍ من داعش، وعراق مرن للتعامل مع التغير المناخي".
ومن جهة أخرى، فقد أجرى "السوداني" جملة من المباحثات مع الدول الأوروبية للتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، كان من بينها مباحثات هاتفية مع جيمس كليفرلي، وزير الخارجية البريطاني، 16 نوفمبر الماضي، لتعزيز جهود مكافحة الإرهاب بين البلدين، وفي اليوم ذاته أجرى مباحثات مع الأمين العام لحلف الناتو، تناولت "تعزيز التعاون الأمني والعسكري بين دول الحلف والعراق، بما يسهم في دعم جهود العراق بمجال مكافحة الإرهاب وإنهاء فلوله"، وناشد "السوداني" الحلف الأوروبي بتقديم التدريبات للقوات الأمنية العراقية، بما يسهم في رفع أدائها.
(*) حشد الدعم الإقليمي لمواجهة إرهاب داعش: أدرك "السوداني" عقب توليه رئاسة الحكومة أن عودة العراق إلى بوابة الدول العربية، يعد أمرًا ضروريًا لنجاح حكومته في مهامها الجديدة، خاصة فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب، ورغم أنه محسوب على "الإطار التنسيقي" الموالي لإيران، إلا أن ذلك لم يمنعه لاختيار المملكة الأردنية الهاشيمة لتكون أولى محطاته الخارجية، 20 نوفمبر الماضي، وخلال الزيارة أجرى مباحثات مع العاهل الأردني الملك "عبدالله الثاني" لتعزيز العلاقات بين البلدين، وتأكيد دعم الأردن للعراق في محاربة الإرهاب، هذا بجانب دعوة "السوادني" إبان "مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة" الذي استضافه الأردن، 20 ديسمبر الجاري، دول المنطقة إلى دعم بغداد في مواجهة التطرف والإرهاب كأولوية بالنسبة للدولة العراقية.
(*) وضع حلول للأزمات الاقتصادية في بلاد الرافدين: إن تحسين أوضاع البلاد الاقتصادية والمعيشية سيسهم بدوره في محاربة التنظيمات الإرهابية التي تستغل سوء أوضاع البلاد لتجنيد عدد كبير من مواطني الشعب العراقى، لذلك احتوت استراتيجية "السوداني" على مسار خاص بمكافحة الفساد، دفع رئيس الوزراء العراقي، خلال مؤتمر بغداد، لمناشدة الأردن وباقي الدول العربية للمشاركة في مساعدة الدولة الشقيقة لتسليم المطلوبين واسترجاع أموال البلاد، ومكافحة الإرهاب والأمن الغذائي والأمن المائي والطاقة وغيرها من المجالات التي تسهم في دعمه، إضافة لذلك فإن حكومة "السوداني" تعمل في الوقت الراهن على وضع "خطة طموحة"، تسهم وفقًا لـ"السوداني" في رفع شعار الإصلاح الاقتصادي وتلبية جميع الاجتياجات الاجتماعية والاقتصادية للعراقيين، والتركيز على الفئات الفقيرة وإدماجهم في سوق العمل حتى لا تكون "فريسة" للجماعات الإرهابية.
دوافع الهجمات:
وفي ظل التطورات السالف ذكرها، يمكن القول إن تنظيم داعش الإرهابي يشن هجمات متزايدة، خلال الفترة الحالية في جميع الأراضي العراقية، بسبب بعض الدوافع، منها الآتي:
(*) إعادة دولته في بلاد الرافدين: خاصة بعد الهزيمة التي تلقاها على يد القوات العراقية بالتعاون مع واشنطن وتم طرده في 2019، ومع ذلك، لا يزال أمام الحكومة العراقية تحديًا متمثلًا في أن التنظيم الإرهابي وبحكم أنه تواجد في الأراضي العراقية لعدد من السنوات، لديه القدرة على تجنيد المواطنين، خاصة في المناطق الريفية التي كانت تحت سيطرته سابقًا، فوفقًا لتقرير مجلس الأمن الدولي في 18 ديسمبر الجاري، فإن داعش لا يزال لديه ما يقرب من 6 آلاف إلى 10 آلاف مقاتل في العراق وسوريا "البلد المجاور".
(*) الاستفادة من التوترات الإقليمية: تجدر الإشارة أن عودة "داعش" جاءت مرتبطة بما يشهده العراق وبعض دول المنطقة من توترات إقليمية وعمليات إعادة الهيكلة، فبالنسبة إلى بلاد الرافدين، نلاحظ أن التنظيم الإرهابي استغل وجود حكومة عراقية جديدة تعمل على وضع الأسس والخطط الهادفة لحل أزمات البلاد، بشن هجمات إرهابية لرفع الروح المعنوية لمقاتليه من جهة، ولإضعاف القوات العراقية وعرقلة تحركاتها لاستهداف معاقل التنظيم من جهة أخرى، وهذه محاولة من قبل "داعش" لإثبات أنه لا يزال فعالًا في المعادلة الأمنية العراقية.
(*) تكرار النموذج الطالباني في الأراضي العراقية: عودة "داعش" لشن هجمات مكثفة مرتبط بمحاولته كباقي التنظيمات الإرهابية الأخرى، السير على نهج "حركة طالبان" التي ضغطت على واشنطن ودفعتها لإخراج قواتها من أفغانستان حتى انفردت بحكم البلاد، وهذا هو ما كنت تريده داعش عندما أعلنت في 2014، رغبتها في تأسيس "دولة إسلامية في العراق والشام".
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إن الحكومة العراقية برئاسة "محمد شياع السوداني"، يقع على عاتقها عبء مكافحة الإرهاب بحزم وجدية، من خلال الاستمرار في دعم استراتيجية المواجهة والتركيز على تكثيف عملية التعاون مع المواطنين، لمساندة القوات الأمنية العراقية وإمدادها بالمعلومات عن تحركات داعش من جهة، وحتى لا يقع العراقيون خاصة الفقراء "فريسة" للتنظيم الإرهابي من ناحية أخرى.