الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

حدود التغير في الموقف الأوروبي من الحرب على غزة

  • مشاركة :
post-title
رئيسا وزراء إسبانيا وبلجيكا أمام معبر رفح

القاهرة الإخبارية - د. مبارك أحمد

شكل صمود حركات المقاومة الفلسطينية في الدفاع عن قطاع غزة ضد القوة الغاشمة الإسرائيلية التي أدت لسقوط ما يقرب من 70 ألفًا ما بين شهيد وجريح، واستهداف للمنشآت والمباني والمستشفيات ومقار المنظمات الدولية العاملة في مجال الإغاثة، دافعًا نحو التحول التدريجي في المواقف الرسمية الأوروبية التي دعم معظمها الجانب الإسرائيلي في بداية الحرب باعتباره حق الدفاع عن نفسها، والذي ما لبث أن تحول تدريجيًا للمطالبة بهدنة إنسانية وإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، والإفراج عن المحتجزين لدى الفصائل، والمطالبة بوقف القصف الإسرائيلي لمنع استهداف المدنيين من النساء والأطفال.

وقد بلغ التحول في المواقف الأوروبية ذروته عندما عقد كل من رئيسي وزراء بلجيكا وإسبانيا مؤتمرًا صحفيًا أمام معبر رفح المصري خلال زيارتهما لمصر في 25 نوفمبر 2023 ومطالبتهما بالوقف الدائم لإطلاق النار وإعطاء أولوية لحل الدولتين، بما جعل إسرائيل تستدعي سفيري الدولتين لديها للتعبير عن اعتراضها.

مؤشرات التغير:

هناك العديد من ملامح التغير في المواقف الأوروبية الرسمية من الحرب على غزة، والتي يمكن إبرازها في العناصر التالية:

مؤشرات تغير الموقف الأوروبي

(*) الموقف الفرنسي: تجلى التحول في موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي انتقل من المطالبة بتشكيل تحالف دولي يدعم إسرائيل على غرار التحالف الدولي لمواجهة تنظيم "داعش" الإرهابي، عقب عملية حركات المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر 20232، إلى المطالبة بوقف القصف الإسرائيلي الذي أصبح يستهدف المدنيين من النساء والأطفال.

كما أيدت فرنسا التحركات العربية في الأمم المتحدة سواء من خلال التصويت بالموافقة على القرار العربي بالأمم المتحدة في 27 أكتوبر 2023 والذي تقدمت به الأردن نيابة عن الدول العربية، وكذلك تأييدها في 12 ديسمبر 2023 لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي طالب بالوقف الإنساني لإطلاق النار والإفراج الفوري عن جميع المحتجزين وضمان وصول المساعدات الإنسانية والذي حظي بأغلبية 153 عضوًا ومعارضة 10 وامتناع 23 عن التصويت.

(*) الرؤية البريطانية: أكد رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك خلال كلمته أمام القمة الدولية لأمن الغذاء في لندن 20 نوفمبر 2023 أن الأوضاع في غزة مأساوية وتزداد سوءًا، وأن ثمة حاجة لدخول المساعدات الإنسانية، وأشار إلى أن بلاده تضغط من أجل دخول هذه المساعدات دون عوائق إلى غزة ومضاعفتها وإيصال الغذاء والوقود والدواء.

يأتي هذا التحول النسبي في الرؤية البريطانية للعدوان الإسرائيلي على غزة، والتي اعتبرت أن عمليات إسرائيل في غزة تعتبر دفاعًا عن النفس، بإضافة أن بريطانيا تدعم حق إسرائيل في "اتخاذ إجراءات متناسبة، في إطار القانون الدولي"، لإنهاء العنف، وأن المملكة المتحدة ستقدم لإسرائيل أي دعم تحتاجه.

وبرغم امتناع بريطانيا عن التصويت على قرار مجلس الأمن الأخير، لوقف إطلاق النار واستخدام الولايات المتحدة لحق النقض "الفيتو"، نادى وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون ونظيرته الألمانية أنالينا بيربوك فى مقال مشترك نشر يوم السبت 16 ديسمبر 2023 في صحيفة صنداي تايمز، بالحاجة العاجلة لتحقيق وقف دائم لإطلاق النار في غزة، وإنهاء إسرائيل لعمليتها العسكرية ضد المقاومة الفلسطينية بشكل سريع ودائم بعد سقوط عدد كبير من المدنيين.

(*) الموقفان البلجيكي والإسباني: قام رئيسا حكومتي بلجيكا ألكسندر دي كرو، وإسبانيا بيدرو سانشيز بزيارة لمصر 24 نوفمبر 2023، ثم توجها لمعبر رفح وعقدا مؤتمرًا صحفيًا أمام بوابة المعبر من الجانب المصري، حيث طالب "دي كرو" بوقف دائم لإطلاق النار، وصرح بأن الحل الوحيد هو الحل السياسي، ودعا إسرائيل لاحترام القانون الدولي الإنساني وإلى التوقف عن قتل المدنيين، مشددًا على أن تدمير القطاع أمر غير مقبول.

ودعا رئيس الوزراء الإسباني من جانبه، إلى أهمية إقرار وقف إطلاق نار دائم، وإتاحة ممرات آمنة لدخول المساعدات إلى غزة، وعلى ضرورة إحلال السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين داعيًا إلى حل الدولتين ومشيرًا إلى أن إسبانيا قد تتخذ قرارها الخاص حول الاعتراف بدولة فلسطين إذا لم يفعل الاتحاد الأوروبي ذلك.

(*) توجهات الاتحاد الأوروبي: شهدت قمة القادة الأوروبيين الـ27 التي عقدت في بروكسيل نهاية أكتوبر 2023 انقسامًا أوروبيًا بين الدعم المطلق للتصعيد الإسرائيلي، والدفاع عن اتخاذ مواقف متوازنة من الحرب على غزة، لذلك جاء الموقف الأوروبي الجماعي نتاجًا لتلك المساومات، حيث جاءت الفقرة 16 من البيان الصادر عن القمة لتشير إلى أن المجلس الأوروبي يعبر عن قلقه العميق إزاء تدهور الوضع الإنساني في غزة، ويدعو لأن يكون وصول المساعدات الإنسانية متواصلًا وسريعًا ومن دون عوائق وأن تصل المساعدات إلى الذين يحتاجون إليها عن طريق كل الإجراءات الضرورية بما في ذلك الممرات والهدنات الإنسانية استجابة للحاجات الإنسانية، وسيعمل بشكل وثيق مع الشركاء في المنطقة لحماية المدنيين وتقديم المساعدة وتسهيل الحصول على الغذاء والمياه والرعاية الطبية والمحروقات والملاجئ، على ألا تذهب المساعدات إلى "المنظمات الإرهابية"، في إشارة إلى الفصائل.

دوافع التغير

هناك العديد من الدوافع التي أدت إلى التغير التدريجي في المواقف الأوروبية حول الحرب على غزة، وهو ما يمكن الإشارة إليه في العناصر التالية:

(&) صمود حركات المقاومة الفلسطينية: على الرغم من وجود خلل كبير في ميزان القوة العسكرية لصالح إسرائيل، فضلًا عن الدعم العسكري الأمريكي المطلق، إلا أن نجاح حركات المقاومة الفلسطينية في تكبيد جيش الاحتلال خسائر فادحة في صفوف المقاتلين والآليات العسكرية، جعل اتجاهات أوروبية ترى أن إسرائيل تتعرض لخطر وجودي، حيث تمكنت حركات المقاومة من استنزاف جيش الاحتلال الإسرائيلي في ظل إخفاق بنيامين نتنياهو في تحقيق أي من الأهداف التي وضعها للحرب على غزة، ومنها تحرير الرهائن، والقضاء على المقاومة أو التهجير القسري للفلسطينيين، فقد كشفت الشواهد على الأرض بأنه حتى وإن كان النزوح من مناطق الاشتباك والاستهداف الإسرائيلي في شمال غزة، فإنه سيكون مؤقتًا.

وقد كشفت الهدنة المؤقتة عن ذلك التوجه بعودة فلسطينيين إلى بيوتهم، حتى وإن هدمتها آلة الحرب الإسرائيلية الغاشمة، فضلًا عن صلابة الموقفين المصري والأردني في رفض تهجير الفلسطينيين داخليًا أو خارجيًا وتأييد حل الدولتين.

(&) المظاهرات الحاشدة في العواصم الأوروبية: جاءت المظاهرات التي اندلعت في معظم العواصم الأوروبية: لندن، باريس، برلين، روما، والتي تطالب بوقف الحرب على غزة وإعطاء فرصة لدخول المساعدات الإنسانية إلى داخل القطاع من مأكل وملبس وأدوية ووقود لازم لتشغيل المستشفيات، لتشكل ضغطًا على صناع القرار الأوروبيين نظرًا لحجم المشاركة الكبيرة في تلك المظاهرات والمنددة بالجرائم الإسرائيلية التي ارتُكبت ضد الأطفال والنساء في قطاع غزة.

(&) تشكيل رأى عام دولي ضاغط: برغم تحيز الإعلام الغربي وتحديدًا الأمريكي والأوروبي للرواية الإسرائيلية، إلا أن ثمة رأي عام دولي ضاغط تشكل في ظل وجود جاليات عربية ومسلمة في الدول الأوربية طالبت بضرورة وقف إطلاق النار ووقف الانتهاكات الإسرائيلية ضد المدنيين والأطفال والنساء، وقد أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل هذا الاتجاه المتنامي، والذي اعتبر أن قصف المستشفيات ودور العبادة واستهداف المدنيين العزل من الأطفال والنساء هي جرائم حرب، وهو الأمر الذي أسهم في التحول في موقف الرأي العام الأوروبي بل والعالمي، لتسقط معه الرواية الإسرائيلية المزعومة، والتي روجت لها بعض الحكومات الأوروبية، بما دفعها للتراجع النسبي بعد ثبوت كذبها.

(&) توجهات الأجيال الجديدة من الأوربيين: يشكل إدراك الأجيال الجديدة من الشباب الأوروبي لاسيما داخل أوساط الجامعات متغيرًا مؤثرًا فى طبيعة النظر إلى العدوان الإسرائيلي على غزة، فقد أصبح الجيل Zبشكل عام في المجتمعات الغربية أكثر تشككًا إزاء السياسة الإسرائيلية نحو الفلسطينيين بما يفوق الأجيال الأكبر عمرًا، حيث تسعى تلك الأجيال إلى تبني القضايا الإنسانية العالمية ورفض انتهاك حقوق الإنسان والدعوى لتطبيق قواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وهو الأمر الذي تجسد في أن المشاركة الأكبر فى المظاهرات التي شهدتها العديد من العواصم الأوروبية الرافضة للعدوان الإسرائيلي على غزة واستهداف الأطفال والنساء، لوقف الحرب كانت للشباب، وهو الأمر الذي كان له انعكاسه على المواقف الأوروبية وتحولاتها إزاء الحرب على غزة.

مجمل القول برغم عدم فاعلية المواقف الأوروبية وضعف قدرتها على التأثير لتغيير الموقف الإسرائيلي مقارنة بالموقف الأمريكي، إلا أن التحول النسبي في تلك المواقف الرسمية إزاء الدعوة لوقف إطلاق النار أو السماح بهدنة إنسانية لإدخال المساعدات الإنسانية، يسهم في الضغط على قادة إسرائيل لإدراك أن الحرب لا يمكن أن تستمر إلى مالا نهاية، فالحرب هي امتداد للسياسة بأدوات أخرى وفقًا للمفكر الاستراتيجي كارل كلاوسفيتز، بمعنى أن استخدام القوة العسكرية لابد أن يرتبط بهدف سياسي، ودون تحقيق هذا الهدف يصعب تحديد الانتصار أو الهزيمة، وبالتالي فإن إخفاق نتنياهو في تحقيق أي من أهداف حربه الغاشمة على غزة يجعل الهزيمة هي مستقبله ومحاسبته على جرائم الحرب التي ارتكبها في حق الشعب الفلسطيني تصبح واجبًا على المجتمع الدولي، فهي جرائم لا تسقط بالتقادم.