الموقع الرسمي | القاهرة الاخبارية

حدود تفاعل محركات النظام الدولي مع الحرب على غزة

  • مشاركة :
post-title
مندوبو فلسطين والجامعة العربية وروسيا والصين بالأمم المتحدة

القاهرة الإخبارية - د. مبارك أحمد

أثارت الحرب على غزة الكثير من الجدل بشأن طبيعة النظام الدولي الحالي، ومدى قدرته على التكيف وتسوية الأزمات المعقدة، لا سيما بعد التوقعات المتزايدة منذ سنوات باتجاه النظام الأحادي القطبية الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية نحو التعددية، التي بدأت فى التشكل منذ الصعود الصيني المتزايد على مسرح تفاعلات السياسة الدولية، وإعادة بعث الدور الروسي، وصعود دور الاتحاد الأوروبي.

وأدى تفاعل القوى الكبرى مع تداعيات الحرب على غزة، وقبلها عملية "طوفان الأقصى"، ليكشف عن قدرة الولايات المتحدة على توظيف الأزمات مثل الحرب على غزة، وقبلها الحرب الروسية الأوكرانية، لتحسين وضعها في إطار التعددية الوليدة، وإن كانت لا تزال هي الفاعل الدولي المؤثر والقطب الأهم في تلك التعددية، وهو ما كشفه تعاملها مع التصعيد في غزة، ودعم حليفها الاستراتيجي بحكم علاقتها العضوية بإسرائيل.

كما كشفت تفاعلات محركات النظام الدولي القائم بمؤسساته، والقوى الرئيسية داخله، وقيمه، عن الإخفاق في وقف الحرب، وأن التعددية القطبية داخل ذلك النظام لا تزال غير قادرة على ترجمة الأوزان النسبية للفاعلين الدوليين داخل مؤسساته، وهو الأمر الذي تجلى في عجز مجلس الأمن الدولي في التوصل لصيغة مناسبة تؤدي إلى وقف إطلاق النار، في ظل استخدام القوى الكبرى لحق النقض "فيتو".

التفاعل مع الحرب

أسهمت حرب غزة في كشف كيفية تفاعل مكونات النظام الدولي الحالي ومحركاته الرئيسية ومدى قدرتها على ضبط الصراعات المعقدة، وما إذا كانت قيمه ومؤسساته والقوى الكبرى المهيمنة على تفاعلاته قادرة على الالتزام بأهدافه في حفظ السلم والأمن الدوليين، فى ظل الانحياز المطلق للقطب الأهم لأحد طرفي الصراع، وهو الأمر الذي يمكن الإشارة إليه من خلال تفاعلها مع تطورات التصعيد العسكري في العناصر التالية:

(*) قيم النظام الدولي: تشكل قيم النظام الدولي الإطار الأهم الذي تتحرك فيه مؤسساته والقوى الكبرى المهيمنة على طبيعة تفاعلاته بشكل عام، وإذا كانت الولايات المتحدة منذ تشكل النظام الأحادي القطبية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تروّج لقيم الحرية والديمقراطية والحفاظ على حقوق الانسان، باعتبار أنها قيم تجعل العالم أكثر أمانًا، إلا إن انحيازها المطلق لإسرائيل جعلها تتبنى السردية الإسرائيلية في أن "حماس" منظمة إرهابية، وأن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها، هذا الحق وإن كان غير مشروع وفقًا لقواعد القانون الدولي، والقانون الدولي الإنساني جعل الولايات المتحدة تسوغ لإسرائيل شنّ حملة عسكرية غاشمة، برًا بحرًا وجوًا، على قطاع غزة، أدت لسقوط أكثر من 11 ألف شهيد فلسطيني ، وما يزيد على 25 ألف جريح، واستهداف للمنشآت العامة والبنى التحتية والمستشفيات والمدارس، بما جعل نصف سكان القطاع بلا مأوى، وهي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تستوجب محاكمة مرتكبيها أمام المحكمة الجنائية الدولية.

وإذا كان الرئيس الأمريكي جو بايدن منذ توليه مقاليد السلطة جاء مُبشرًا بعودة القيادة الأمريكية للعالم الحر، وأن ما يروج له أن العالم أصبح أكثر أمنًا، إلا إن اختبار تلك القيم في الأزمات المتفجرة مثل الحرب الروسية الأوكرانية أو الحرب على غزة، أثبت فشلها في أن تجعل العالم أكثر أمنًا، بل أضحى أكثر خطورة وترويعًا، وانصياعًا للقوة الغاشمة التي لا تعترف بقيم أو أخلاقيات، بما جعل البعض يصفون ذلك الواقع بالسقوط الأخلاقي للغرب في غزة، باعتباره المهيمن على تفاعلات النظام الدولي القائم.

(*) مؤسسات النظام الدولي: كشفت الحرب على غزة عن عجز مؤسسات النظام الدولي القائمة في وقف التصعيد العسكري الإسرائيلي، وقد تجلى ذلك في إخفاق مجلس الأمن في التوصل لصيغة ترضي الدول دائمة العضوية التي تدافع عن مصالح متناقضة، وتسعى لتوظيف ذلك في تلك الحرب، فأصبحنا إزاء قوتين مركزيتين داخل مجلس الأمن الأولى، أولهما الولايات المتحدة الأمريكية وتدعمها بريطانيا، وقد استخدمت حق النقض "الفيتو" ضد مشروعي قرار اقترحتهما روسيا، لوقف الحرب وإدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة. وثانيهما التحالف الروسي الصيني، وقد استخدمت بكين وموسكو حق النقض "الفيتو" ضد مشروع القرار الأمريكي في مجلس الأمن الدولي على أساس أنه لا يطرح الوقف الفوري لإطلاق النار.

كما فندت بكين اعتراضها على مشروع القرار الأمريكي بشكل يعكس خلل مؤسسات النظام الدولي القائمة، وخلل الإدراك الأمريكي في الانحياز المطلق للحليف الاستراتيجي (إسرائيل)، إذ اعتبرت أن مشروع القرار الأمريكي انتقائي في ذكر الأسباب الجذرية للأزمة الإنسانية، وأن تبنيه يعني الإطاحة بأفق حل الدولتين، ويدخل الطرفين في دائرة مفرغة من المواجهة والكراهية.

(*) القوى الكبرى داخل النظام الدولي: تمايزت مواقف القوى الكبرى داخل النظام الدولي من الحرب على غزة، إذ أرجعت روسيا التصعيد بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لفشل الولايات المتحدة الأمريكية في وساطتها بين الجانبين، واعتبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 11 أكتوبر 2023، أن فشل سياسات واشنطن في الشرق الأوسط نتيجة احتكارها القرار بشأن التسوية، وإبعاد الأطراف الأخرى، بما أدى لفشلها في تطبيق القرارات الدولية ووضع حد للمواجهة المتفاقمة، كما انتقد بوتين الوعود الأمريكية الكثيرة بالرخاء الاقتصادي في مقابل التنازل عن حقوق وطنية، وأن تلك الوعود لم تنجح في إقناع شعب فلسطين بإنهاء جوهر المشكلة التي تقوم على احترام حقه في بناء دولته وتقرير مصيره، في حين طالبت الصين بالوقف الفوري لإطلاق النار، ومنع استهداف المدنيين، وإدخال المساعدات الإنسانية لقطاع غزة.

بلينكن ونتنياهو

وجاء الموقف الأوروبي كعادته منقسمًا، وهو ما تجلى في التصويت على القرار العربي بالجمعية العامة للأمم المتحدة الداعى لهدنة إنسانية دائمة في غزة، ما بين دول مؤيدة للقرار مثل فرنسا وبلجيكا، ودول ممتنعة عن التصويت مثل بريطانيا وألمانيا وإيطاليا وقبرص واليونان، فيما صوتت كل من النمسا والمجر والتشيك وكرواتيا ضد القرار. أما الموقف الأمريكي فقد جاء داعمًا لإسرائيل على جميع المستويات، توجهًا وسلوكًا تجسد في التالي:

(&) الدعم الاقتصادي والعسكري: سارعت إدارة بايدن لتعزيز الدعم العسكري لإسرائيل بحرًا وجوًا، إذ نشرت مجموعتي حاملات الطائرات في شرق البحر المتوسط هما "أيزنهاور"، و"فورد" ترافقهما عشرات السفن والبوارج الحربية، فضلًا عن تعزيز أسراب الطائرات المقاتلة في المنطقة.

كما أعلنت البحرية الأمريكية، في 8 نوفمبر 2023، أن غواصة تعمل بالطاقة النووية، ومزودة بصواريخ موجهة تعمل في الشرق الأوسط دعمًا للأسطول الأمريكي الخامس، وذكر المتحدث باسم البحرية تيموثي هوكينز، في بيان، أن الغواصة قادرة على حمل ما يصل إلى 154 صاروخ كروز من طراز توماهوك، وأُرسلت إلى الأسطول الخامس، للمساعدة على نشر الأمن والاستقرار البحريين في المنطقة.

وتبرر واشنطن تكثيف وجودها العسكري، والذي يتناقض مع استراتيجيتها فى التوجه شرقًا، والحد من ارتباطاتها في منطقة الشرق الأوسط، باعتباره رسالة ردع لإيران وحلفائها، لمنع تمدد الصراع إلى جبهات أخرى مناهضة لإسرائيل.

وكان مجلس النواب الأمريكي وافق، في 2 نوفمبر 2023، على مشروع قانون لتقديم مساعدات بقيمة 14.3 مليار دولار لإسرائيل، وجاء التصويت بأغلبية 226 صوتًا مقابل 196.

(&) الدعم المعنوي: تلقت إسرائيل دعمًا أمريكيًا معنويًا منقطع النظير، بهدف مساندتها استراتيجيًا تجسد في زيارات مسؤولي الإدارة الأمريكية تل أبيب عقب عملية "طوفان الأقصى"، حيث زار الرئيس الأمريكي جو بايدن إسرائيل، مؤكدًا دعم الولايات المتحدة الأمريكية لـ"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، كما زار وزير الدفاع لويد أوستن قيادة جيش الاحتلال، وتكررت زيارات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن.

مجمل القول؛ كشفت تفاعلات محركات النظام الدولي (القيم، المؤسسات، القوى المهيمنة) إزاء الحرب على غزة عن طبيعة النظام وعجز مؤسساته عن اتخاذ قرار دولي بوقف الحرب، كما كشفت كذلك عن استمرار التحالفات القائمة، دون تغيير جوهري فى طبيعتها، وهو الأمر الذي عكسه الدور الأمريكي، الذي كان الأكثر تأثيرًا، في مسار العدوان العسكري وتأييدًا لاستمراريته، وذلك من خلال تسويغ استمرار إسرائيل فى عدوانها الغاشم والإجرامي على غزة، ودعمه بكل الوسائل. في حين جاءت بعض مواقف القوى الكبرى داخل النظام الدولي مثل روسيا والصين داعمة لوقف إطلاق النار دون تحركات فعلية على أرض الواقع لترجمة توجهاتها، سواء تلك المرتبطة بعلاقاتها مع إسرائيل أو الضغط لوقف العدوان على غزة، فيما ظل الانقسام الأوروبى دليلًا على أنه لا يملك سوى الأمنيات الطيبة لحل القضية الفلسطينية كما قيل في فترات سابقة، لتبقى قواعد النظام الدولي الحالى عاجزة عن معالجة أزماته المعقدة.