على النقيض من المواقف الأوروبية المنحازة لإسرائيل جاء الموقف الفرنسي ليبلور نوعًا من التوازن إزاء التصعيد الإسرائيلي الغاشم على غزة، الذي تشكل عقب عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، وتبنى جيش الاحتلال عملية "السيوف الحديدية" ضد غزة، واستهدف القطاع جوًا وبرًا، بما تسبب في وقوع ما يزيد على 11 ألف شهيد فلسطيني منهم آلاف النساء والأطفال، وما يزيد على 29 ألف مصاب.
وتنوع التفاعل الفرنسي مع ذلك الواقع المعقد، ما بين زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى إسرائيل، لإظهار التضامن الفرنسي مع تل أبيب، ولقاءه بالرئيس الفلسطيني محمود عباس في رام الله، وبيانات وزارة الخارجية الفرنسية، مرورًا باستضافة باريس لمؤتمر دولي إنساني بشأن الأوضاع الإنسانية في غزة، ودعم مشروعات القرارات بمجلس الأمن الدولي الرامية إلى تحقيق هدنة إنسانية بغزة وإدخال المساعدات الإنسانية، وصولًا إلى التصويت لصالح تأييد القرار العربي بالجمعية العامة للأمم المتحدة.
مواقف داعمة
تنوعت المواقف الفرنسية من الحرب على غزة، وهو ما يمكن الإشارة إليه من خلال العناصر التالية:
(*) توجهات إيمانويل ماكرون: جاءت زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إسرائيل في 24 أكتوبر 2023، لتعكس تضامن باريس مع تل أبيب، وأولوية الإفراج عن المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية، فضلًا عن دعوته إلى إطلاق العملية السياسية بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
واعتبرت بعض الاتجاهات أن الزيارة تعد دعمًا مباشرًا وتأييدًا لإسرائيل وتضامنًا معها، التي سبقتها زيارة رئيسة البرلمان الفرنسي يائير براون بيفيه، التي عبّرت عن تأييدها المطلق لإسرائيل وإقرار حقها في الدفاع عن نفسها، وتأكيدها أن لا شيء يتعين أن يمنع إسرائيل من الدفاع عن نفسها، وهو الأمر الذي أثار جدلًا داخل المجتمع الفرنسي باعتباره ابتعادًا عن الخط الرسمي الفرنسي، الذي يدعو إسرائيل إلى الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، والامتناع عن استهداف المدنيين، وهو التوجه الذي تبناه الرئيس الفرنسي ماكرون، خلال مقابلته مع تليفزيون "بي بي سي"، 13 نوفمبر 2023، وانتقاده المباشر لاستهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي للمدنيين في غزة، وهناك أطفال ونساء وكبار سن يتعرضون للقصف والقتل، معتبرًا أنه لا يوجد سبب لذلك ولا شرعية، ثم ما لبث أن عاد وأكد ماكرون حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، خلال اتصال هاتفي مع الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوج.
(*) الخارجية الفرنسية: جاء بيان وزارة الخارجية الفرنسية في 29 أكتوبر 2023 ليدين بشدة هجمات المستوطنين التي أدت إلى مقتل العديد من المدنيين الفلسطينيين في قُصرة والساوية، فضلًا عن التهديد القسري لعدد من التجمعات السكنية، واعتبرت أن أعمال العنف التي يرتكبها مستوطنون ضد الفلسطينيين آخذة في التزايد وغير مقبولة ويجب أن تتوقف، كما دعت إسرائيل إلى اتخاذ تدابير فورية لحماية الفلسطينيين.
(*) المشاركة في قمة القاهرة للسلام 2023: أعلنت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا في كلمتها أمام الجلسة الافتتاحية لقمة القاهرة للسلام، التي عقدت في 21 أكتوبر 2023، أن موقف فرنسا الثابت هو "أمن إسرائيل ودولة للشعب الفلسطيني هاتان المنطقتان كل لا يتجزأ، الحل المستدام هو حل الدولتين وتعيشان بأمن وسلام جنبًا إلى جنب"، وأن المسؤولية تتمثل في التوصل إلى توافق على هذه الأسس "لكي يندمل هذا الجرح بالشرق الأوسط". كما أعلنت مساعدة إضافية بقيمة عشرة ملايين يورو عن طريق منظمات الأمم المتحدة، والصليب الأحمر، والمنظمات غير الحكومية لتقديم المساعدات الأولية والأغذية والدواء للفلسطينيين، وضرورة التوصل لتوافق بشأن حل الدولتين.
(*) التفاعل داخل المنظمات الدولية: جاء تأييد فرنسا لمشروع القرار البرازيلي، الذي مثل أول تحرك دولي داخل مجلس الأمن باعتبار أن البرازيل كانت تتولى رئاسة مجلس الأمن، أكتوبر الماضي، ليعكس الرغبة الفرنسية في تحقيق هدنة إنسانية وإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة. وأصدرت الخارجية الفرنسية بيانًا أكدت فيه أن باريس صوتت لصالح مشروع القرار الذي أجهضه لجوء الولايات المتحدة الأمريكية لاستخدام حق النقض "الفيتو"، بحجة أنه لا ينص على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس.
ووفقًا للبيان الفرنسي، فإن مشروع القرار الذي حاز على 12 صوتًا كان الأكثر قدرة على توفير الإجماع في مجلس الأمن حول مبادئ مشتركة، إلى جانب إدانة الفصائل الفلسطينية والمطالبة بالإفراج عن المحتجزين واحترام القانون الدولي الإنساني، ووقف إطلاق النار لأغراض إنسانية وفتح ممرات بشكل تام وآمن لمنظمات الأمم المتحدة والصليب الأحمر الدولي والمنظمات الإنسانية في غزة من أجل إيصال المساعدات الضرورية للمدنيين، كذلك فإن مشروع القرار البرازيلي أعاد التذكير بحل الدولتين والعيش ضمن حدود آمنة ومعترف بها، ويدعو إلى تكثيف الجهود من أجل منع التصعيد العسكري في الشرقين الأدنى والأوسط. وخلص بيان الخارجية الفرنسية إلى تأكيد أن باريس ستبقى معبأة للعمل مع شركائها من أجل الاستجابة إلى الحاجات الإنسانية الطارئة وتجنب اشتعال المنطقة. وتماشيًا مع تلك الركائز جاء التصويت الفرنسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة ليؤيد القرار العربي الذي تمت الموافقة عليه بأغلبية كبيرة، وأخيرًا انضمت باريس لتأييد القرار المالطي بمجلس الأمن الدولي في 15 نوفمبر الجاري والقاضي بتنفيذ هدن إنسانية والسماح بدخول المساعدات وإعادة المحتجزين بالقطاع.
(*) استضافة مؤتمر باريس حول الأوضاع الإنسانية في غزة: استضافت فرنسا بمبادرة من الرئيس الفرنسي إيمانويل 9 نوفمبر 2023 مؤتمرًا إنسانيًا دوليًا حول الأوضاع الإنسانية في غزة. وحددت باريس ثلاثة أهداف رئيسية للمؤتمر: العمل من أجل احترام القانون الدولي وحماية المدنيين والعاملين في المجال الإنساني، وتعزيز الحصول على المساعدات الإنسانية، تلبية الاحتياجات الإنسانية والدولية في قطاعات الصحة والمياه والطاقة والغذاء، والدعوة إلى التعبئة من أجل دعم الوكالات والمنظمات الدولية الفاعلة ميدانيًا في غزة. ودعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى ضرورة العمل من أجل وقف إطلاق النار، والحاجة إلى هدنة إنسانية، معلنًا أن فرنسا ستزيد من مساعداتها لغزة إلى 100 مليون يورو.
وركز المؤتمر على تقييم احتياجات قطاع غزة بالاستناد إلى تقارير الوكالات الدولية، التي قدرت أن الحاجات الإنسانية تصل إلى 1.2 مليار دولار حتى نهاية عام 2023.
محددات مؤثرة
هناك العديد من المحددات المؤثرة في بلورة الموقف الفرنسي، التي يمكن الإشارة إلى أبرزها في العناصر التالية:
(&) الاستقلالية الفرنسية: التي يحاول ماكرون الظهور بها، بعيدًا عن الانحياز الأمريكي المطلق لإسرائيل، إذ يسعى للحفاظ على التقاليد الفرنسية الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني وفي مقدمتها مبدأ حل الدولتين وهو التوجه الذي تضمنته المواقف الفرنسية بمستوياتها المختلفة، إذ يسعى ماكرون للتعاطي بنوع من التوازن مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وتداعياته، وهو الأمر الذي تجلى في زيارته لإسرائيل ولقائه بالمسؤولين هناك، أعقبها لقاء مع الرئيس الفلسطيني في رام الله، إذ أكد ماكرون استمرار فرنسا في دعم الفلسطينيين والسلطة الفلسطينية، ومشيرًا إلى أنه لا شيء يمكن أن يبرر معاناة المدنيين في قطاع غزة.
(&) الانقسام الفرنسي الداخلي ما بين اليمين واليسار: يشكل الانقسام المجتمعي الفرنسي أحد محددات التحرك الفرنسي، لا سيما في ظل وجود مؤيدين لكلا التيارين الأول؛ التيار اليميني المتطرف، الذي تتزعمه مارين لوبان المرشحة الرئاسية السابقة، وتساندها الأحزاب اليمينية والمتطرفة، ويدعو هذا التيار إلى دعم باريس لما يراه حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، في حين يطالب التيار الثاني؛ اليسار والذي يتشكل من الأحزاب الاشتراكية بضرورة تحقيق هدنة إنسانية وإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، واحترام قواعد القانون الدولي الإنساني خلال المواجهات العسكرية التي تمنع استهداف المدنيين.
هذا الانقسام لا يتمثل فقط ما بين أحزاب اليمين واليسار، وإنما يمتد إلى الانقسام الديني أيضًا، ففرنسا لديها أكبر جاليتين يهودية وعربية مسلمة في أوروبا، وهو الأمر الذي سيكون له تداعياته على التماسك الداخلي، بما جعل الموقف الفرنسي يتسم بنوع من التوازن إزاء أطراف الصراع برغم خروج إسرائيل عن كل القواعد الإنسانية، واقترافها لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ضد شعب أعزل.
(&) رفض انتشار الصراع وتمدده: تسعى فرنسا من خلال تعاطيها مع التصعيد الإسرائيلي في غزة للحيلولة دون تمدده وانتشاره في دول الإقليم، أو دخول جبهات أخرى واشتعالها بما يهدد السلم والأمن الدوليين.
وحذرت من ذلك وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، خلال مشاركتها في قمة القاهرة للسلام بأن هناك قوى قررت أن تصب الزيت على النار، وأن تغذي الجرائم والحرب، وأن تنفذ برنامجها للهيمنة وتضعف دول المنطقة وتنشر الفوضى، محذرة من الوقوع في هذا الفخ، وتحمل المسؤولية الجماعية والعودة إلى درب السلام.
مجمل القول؛ جاء الموقف الفرنسي ليكشف عن التعاطي بنوع من التوازن إزاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، عقب التصعيد الغاشم لجيش الاحتلال في غزة، حتى وإن بدا أقرب إلى دعم إسرائيل، إلا أنه تبنى أهمية حماية السكان المدنيين وعدم استهدافهم وفق قواعد القانون الدولي الإنساني، وتأييد تحقيق هدنة إنسانية لإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، وتوضيح خطورة تعامل إسرائيل مع الصراع الذي سيكون له تأثير على البيئة الأمنية التي سيجد الشرق الأوسط نفسه فيها خلال العقد المقبل.