يعكس الموقف الروسي من التصعيد الفلسطيني الإسرائيلي منذ اندلاع عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركات المقاومة الفلسطينية فى 7 أكتوبر 2023، في المستعمرات الإسرائيلية بغلاف غزة، نوعًا من الحياد الدولي إزاء تطورات الموقف بين الجانبين وبعيدًا عن الانحياز الغربي لإسرائيل، وقد تجلى الموقف الروسي في العديد من التوجهات المؤثرة، إذ تبنت روسيا مشروع قرار بمجلس الأمن يقوم على ضرورة تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على أساس حل الدولتين وقرارات الشرعية الدولية، كما اعتبر الرئيس فلاديمير بوتين أن الحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين مثال واضح على فشل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وأنه من الضروري تنفيذ قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة المتعلقة بإقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة.
مؤشرات داعمة
يعد الموقف الروسي على المستوى الدولي أحد المواقف الداعمة لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وهو الأمر الذي يمكن الإشارة إليه في العناصر التالية:
(*) الرئيس الروسي: جاء موقف الرئيس فلاديمير بوتين في مجمله داعمًا لحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وذات السيادة تنفيذًا لقرارات مجلس الأمن الدولي، واعتبر بوتين هذا الإخفاق مثالًا واضحًا على فشل السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط التي اتهمها باحتكار تسوية الصراع وخدمة أفكارها الخاصة دون أن تأخذ في الاعتبار إيجاد تسويات مقبولة للطرفين، ودون مراعاة المصالح الأساسية للشعب الفلسطيني.
(*) وزارة الخارجية: تشكل قضية إقامة الدولة الفلسطينية أساس توجهات الخارجية الروسية، وأكد وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في 9 أكتوبر 2023 على أن إنشاء دولة فلسطينية هي السبيل الأكثر موثوقية لإيجاد حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. فيما أكدت أيضًا المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا موقف بلادها المبدئي والثابت بأنه لا يمكن بوسائل القوة حل هذا النزاع المستمر منذ 75 عامًا، وفقط يمكن حله حصرًا بالوسائل السياسية والدبلوماسية، ومن خلال إقامة عملية تفاوضية كاملة على الأسس القانونية الدولية المعروفة، التي تنص على إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ضمن حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، تعيش بسلام وأمن مع إسرائيل.
(*) طرح مشروع قرار دولى بمجلس الأمن: تبنت روسيا في 13 أكتوبر 2023 مشروع قرار بمجلس الأمن الدولي بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وتناول محتوى القرار الإعراب عن القلق البالغ إزاء تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة، والتأكيد على وجوب حماية السكان المدنيين الفلسطينيين والإسرائيليين، والدعوة إلى وقف إنساني لإطلاق النار والتنديد بالعنف ضد المدنيين وجميع الأعمال الإرهابية، والمطالبة بالإفراج عن الرهائن ووصول المساعدات الإنسانية والإجلاء الآمن للمدنيين الذين يحتاجون للإجلاء.
وإجرائيًا يحتاج مشروع القرار الذي قدمته روسيا لمجلس الأمن، ولم يحدد موعد للتصويت عليه إلى تسعة أصوات مؤيدة على الأقل من أعضاء مجلس الأمن الخمسة عشر، مع عدم استخدام أي من الدول الخمس دائمة العضوية وهي: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، والصين، وروسيا لحق النقض (الفيتو). وهو أمر بطبيعة الحال يظل مستبعدًا في ظل الخبرات السابقة التي تستخدم فيها الولايات المتحدة حق النقض (الفيتو) لحماية إسرائيل التى تعد الحليف الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط.
(*) رفض فكرة تهجير الفلسطينيين: يقوم الموقف الروسي على رفض الدعوات الموجهة للفلسطينيين لمغادرة أرضهم، إذ أوضح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 11 أكتوبر 2023 أن الدعوات الموجهة للفلسطينيين للمغادرة إلى سيناء، ليست أمرًا يمكن أن يؤدى إلى السلام، وأن غزة جزء من أرض فلسطين التاريخية، وأنه كان من المفترض إنشاء دولة فلسطينية مستقلة تشمل غزة.
(*) الدعوة لوقف إطلاق النار: شكلت تصريحات السفير الروسي لدى إسرائيل أناتولي فيكتوروف دعمًا لأهمية وقف إطلاق النار بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في 11 أكتوبر 2023، حيث أشار أن كل جهود المجتمع الدولي يجب أن تهدف إلى تحقيق وقف إطلاق النار وتهدئة الوضع والمضي قدمًا لإيجاد حلول موثوقة للوضع من شأنها أن توفر تسوية طويلة الأمد على أساس قانوني دولي جدي، كما أكد فيكتوروف أن تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو مفتاح السلام في الشرق الأوسط لأنه أحد أطول الصراعات في التاريخ الحديث، والذي يواصل تأجيج التوترات في المنطقة والمشاعر المتطرفة خارجها.
محددات دافعة
ارتبط الموقف الروسي من تطورات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي منذ إطلاق عملية "طوفان الأقصى" بالعديد من المحددات التي يمكن الإشارة إلى أهمها في التالي:
(&) تعزيز دور الوساطة فى تسوية الصراع: تسعى روسيا من خلال انخراطها في تسوية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لتعزيز مكانتها في أدوار الوساطة الدولية، لتسوية الصراعات المتفجرة لا سيما وأنها تعتبر نفسها وسيط محايد يمتلك علاقات متوازنة مع طرفي الصراع سواء الفلسطينيين أو الإسرائيليين، وهو الأمر الذي عبّرت عنه المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا في الذكرى الثلاثين لاتفاقية أوسلو فى 13 سبتمبر 2023، عندما أشارت إلى أنه يتوجب على الولايات المتحدة التي تحتكر ساحة المفاوضات والوساطة أن تفسح المجال للوساطة الجماعية المحايدة في إطار الملف الفلسطيني، وأنه لا يمكن حل الخلافات بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إلا من خلال الحوار المباشر والشامل، وأن الجانب الروسي يؤيد الإسراع بالخطوات الجماعية الرامية إلى تهيئة الشروط المسبقة اللازمة لاستئناف عملية السلام.
(&) الحرب الروسية الأوكرانية: يمثل التصعيد العسكري بين الفلسطينيين والإسرائيليين وفى ظل الاهتمام الأمريكي بدعم الحليف الاستراتيجي لها إسرائيل ومحاولة تقديم كل صور الدعم العسكري والاقتصادي والمعنوي، فرصة للحد من الاهتمام الأمريكى والغربي بالصراع الروسي الأوكراني، والذي سيأتي في أولوية متأخرة مقارنًة بمركزية إسرائيل في الاستراتيجية الأمريكية، بما سيصب في مصلحة روسيا لتنفيذ أهدافها في الحرب بأوكرانيا، الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي معربًا عن تخوفه من انشغال العالم بما يجري في فلسطين والتغافل عما يحدث في أوكرانيا، متهمًا روسيا بدعم حركات المقاومة الفلسطينية لصرف أنظار المجتمع الدولي عن الحرب.
(&) استدعاء الذاكرة التاريخية: تشكل الذاكرة التاريخية أحد المحددات الحاكمة للتوجهات الروسية إزاء تفاعلات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فمن ناحية يسعى بوتين لاستعادة المجد الروسي بالانخراط في الأزمات الدولية باعتبارها أحد الأقطاب الدولية المؤثرة، وعلى أساس أنها عضو فى الرباعية الدولية المعنية بالشرق الأوسط إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، وبما يعزّز موقفها المحايد من مكانتها عالميًا في ظل الانحياز الأمريكي والأوروبي للموقف الإسرائيلي، ومن ناحية أخرى اتجه بوتين نحو توظيف الذاكرة التاريخية بما تحمله من سلبيات، واعتبر أن الحصار الإسرائيلي المحكم على قطاع غزة غير مقبول، وشبهه بالحصار النازي لمدينة لينينجراد السوفيتية إبان الحرب العالمية الثانية.
مجمل القول؛ تشكل المصالح الروسية في منطقة الشرق الأوسط أحد المحددات الرئيسية لموقفها إزاء تطورات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، سواء فيما يتعلق بسعيها لتعزيز مكانتها كفاعل مؤثر ومنخرط في الأزمات الإقليمية وتداعياتها، ورغبتها فى القيام بدور الوساطة فى ظل الانحياز الأمريكى لإسرائيل التي تعد حليفها الاستراتيجي في المنطقة، أو ما يتعلق بتعزيز صورتها لدى شعوب المنطقة باعتبارها قطب دولى محايد يتبنى تسوية الصراع على أسس من الشرعية الدولية، التى أقرت بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية.