"ضيف خفيف على الدنيا، يشتاق دائمًا إلى الذهاب لمكان آخر".. هكذا وصف نجيب الريحاني صديقه سيد درويش، الذي تعاون معه في العديد من الأعمال المسرحية، رفقة الضلع الإبداعي الثالث بديع خيري، لكن هذا الضيف الاستثنائي وضع أسس الموسيقى العربية التي سار عليه المبدعون من بعده، ورغم ذلك الإسهام البارز لم توثق حياة سيد درويش بشكل دقيق، خصوصًا مع رحيل المعاصرين له، كما أن بعض إنتاجاته الإبداعية وألحانه لم تعرف طريقها إلى النور، حسبما يكشف حفيده الموسيقار محمد حسن سيد درويش، الذي يحمل الجينات الإبداعية من الجد صاحب الإسهام البارز في الموسيقى العربية وتطورها.
وقال محمد درويش، مُؤسس فرقة "تراث سيد درويش"، في تصريحات لـ"القاهرة الإخبارية": إنه لا يوجد عمل فني استطاع رصد حياة سيد درويش بشكل يتناسب مع ما قدمه للموسيقى العربية وقيمته الفنية، كما أن هناك الكثير من الأعمال والروايات والألحان لم تظهر إلى النور للمبدع الراحل الذي بث في موسيقى بلاده روحًا جديدة.
سيد درويش ليس مُغنيًا بل مؤديًا جيدًا، استطاع أن يحول الأغنية إلى أسلوب تعبيري مسرحي، وأطلق الأغنية الجماعية فيما يشبه العمل الأوبرالي، لديه 26 رواية مسرحية مُحققة، أقل واحدة منهم تتضمن 8 ألحان، فيما تبلغ في روايات أخرى 13 لحنًا، ويشير حفيده إلى أنه تعلق بأبو الفنون وأسس فرقة مسرحية غنائية، أصدر من خلالها 3 عروض هي "شهرزاد، الباروكة، والعشرة الطيبة".
كما وضع سيد درويش ألحان مسرحيات أخرى لفرق متعددة، منها روايات "انتخابات، الطاحونة الحمراء، أم أربعة وأربعين، كلها يومين، مرحب، وأحلاهم"، وإنتاج سيد درويش من الألحان يصل 475، إضافة إلى ألحان أخرى مفقودة، واستطاع بأعماله أن يرتفع بالغناء إلى مستوى يُعبر من خلاله الفرد عن مشاعره ونزعاتها.
موهبة فنان الشعب لا ينازعه عليها أحد، إذ قال حفيده إنه عندما سافر جده إلى بلاد الشام زاد علمه بالمقامات الموسيقية والدروب والموشحات، وعندما أتى إلى مصر عمل ما يقرب من 10 أدوار موسيقية كل منها يجب تدرسيها في معاهد الموسيقى المتخصصة.
موسيقى سيد درويش وصلت إلى جميع فئات المجتمع، إذ وضع لحن "الزفة" الشهير بأغنية "يا عشاق النبي"، التي كانت تُعزف في كل الأفراح وقتئذ، وأيضًا أظهر بعض المقامات الموسيقية، منها "النكريز، والزنجران"، ووضع لحن النشيد الوطني المصري "بلادي بلادي"، إذ قال حفيده: "عبقرية سيد دوريش هنا في وضع لحن النشيد الوطني تُكمن في أنه قدمه على إيقاع المقسوم، رغم أن النشيد الوطني وقتها كان يُقال بطريقة مباشرة وليس مقسومًا".
وحول نشأته قبل أن يحترف الفن، قال حفيده: "سيد درويش نشأ وسط أسرة عادية، والتحق بأحد الكتاتيب، وكان من حافظي القرآن والأناشيد الدينية، حتى أصبح مُنشدًا، لكن تم فصله من الكتاب والمعهد الديني بسبب اتجاهه للغناء، إذ كان يُغني في المقاهي لكسب المال من أجل الإنفاق على أسرته بعد وفاة والده".
وأشار حفيده إلى أن الموسيقار سلامة حجازي نصح فنان الشعب بأن يأتي إلى القاهرة، ليظهر إنتاجه الإبداعي إلى النور، وبالفعل ذهب في عمر الـ17 إلى القاهرة، وبدأت ألحانه تظهر إلى النور، ومع مكافحة ونضال سيد درويش ضد الاستعمار، استحق لقب "فنان الشعب" الذي منحه البسطاء إياه، خصوصًا أنه أسهم بشكل كبير في إيقاظ الهمم وإشعال الروح الثورية في وجدان المصريين ضد قوات الاحتلال، ونقل بألحانه كلمات صديقه بديع خيري إلى كل بقاع مصر، حتى إن الكاتب الراحل قال في أحد تسجيلاته "لولا ألحان سيد درويش لم يكن أحد يعرف كلماتي".
وحول الصفات الشخصية كان سيد درويش غيورًا على فنه لدرجة أنه كان يوجه اللكمات إلى أي مطرب يجرأ على تغيير ألحانه سواء عن عمد أو دون قصد، إذ يقول حفيده: "كان واثقًا من نفسه للغاية، ولم يكن ماديًا، لكنه كان يحب تقديره بشكل يليق بإنجازه الإبداعي، بل إنه مع صديقه بديع خيري كانا في بعض الليالي لا يجدان ثمن وجبة العشاء، ويرفضان أن يُقدما أعمالًا من أجل المال فقط، مفضلين حياة الفقر عن المشاركة في أعمال غير ذات قيمة".
ونبّه محمد حسين سيد درويش إلى أن منزل سيد درويش في جزيرة بدران يوجد به تراث كبير ومقتنيات للراحل، وهو البيت الذي اختاره له صديقه بديع خيري، وقت أن جاء إلى القاهرة للمرة الأولى وأصبحا جيران أيضًا.
توفي سيد درويش في الإسكندرية، 15 سبتمبر 1923، التاريخ الذي أخطأ فيه الجميع حتى مُحرك البحث العالمي جوجل، الذي ذكر أن تاريخ وفاته 10 سبتمبر، كما أكد حفيده محمد حسن درويش لـ"القاهرة الإخبارية".
ولدى حفيد فنان الشعب جدول حافل مع فرقة تراث سيد درويش للاحتفاء بمئوية الموسيقي الراحل، منها حفل في مسقط رأسه بالإسكندرية 23 سبتمبر الجاري، وصالون ثقافي في المسرح الصغير بدار الأوبرا، 17 من الشهر نفسه، واحتفالية أخرى في وكالة الغوري، وحفلات أخرى على مدار الشهر.