في ظل التحديات اليومية التي تواجه الثقافة والسينما الفلسطينية، يبرز فيلم "حبيبي حسين" للمخرج الفلسطيني أليكس بكري كمثال حي على الصمود والإبداع، إذ يروي قصة الإنسان والمكان معًا، من خلال شخصية "حسين درابي"، آخر مشغّل سينما في مدينة جنين، وتجربته التي امتدت لأكثر من 17 عامًا لإتمام هذا العمل الوثائقي الفريد.
رحلة طويلة
لم يكن الفيلم في بدايته مشروعًا واضح الملامح أو رؤية جاهزة، فقد انطلق "بكري عام 2008 ضمن مشروع لإعادة ترميم سينما جنين، حيث كان من المفترض أن يُنجز عنه فيلم وثائقي بإدارة مخرج ألماني، يشارك فيه "بكري" كمخرج ثانٍ. لكن ما إن تلقّى اتصالًا يعلن عن مبادرة ألمانية لإعادة فتح السينما بعد إغلاق طويل، حتى شعر بانجذاب طبيعي للعمل كجزء من المشروع نفسه، لا كمراقب فحسب، فحمل كاميرته، وبدأ يوثق خطوات إعادة البناء، تحولات المكان، ومحاولات التمويل، إضافة إلى التفاصيل اليومية للعمل، مُكونًا أرشيفًا غنيًا من اللحظات والتفاعلات داخل السينما.
خلال التصوير، بدأ بكري يبحث عن بؤرة إنسانية تمنح الفيلم قلبه وروحه. ظل الأمر كذلك حتى دخول "حسين داربي" إلى السينما، آخر مشغّل أفلام في جنين، في لحظة شكَّلت نقطة التحول في مسار الفيلم. اقترب حسين من بكري وهمس له: «تعال أفرجيك شغلة»، ثم اصطحبه إلى غرفة البث، أشعل الفحم، وشغّل ماكينة العرض القديمة.
انبعث الضوء كأنه ينبض بالحياة بعد سنوات طويلة من السبات، كانت تلك اللحظة بالنسبة لبكري علامة حاسمة، إذ أدرك أن حسين هو شخصية الفيلم الأساسية، وحمل كاميرته لتوثيق صمته، دهشته، ذكرياته وتعليقاته، بينما يتعامل حسين مع كل جزء في الجهاز كما لو أنه جزء من كيانه منذ الطفولة.
المفارقة أن الفيلم الأول الذي أنتجه المشروع الألماني قلَّص دور حسين إلى حد بعيد، مما دفع بكري إلى طلب كل المواد المتعلقة به والبدء بمشروعه الخاص عام 2011، ليصبح الفيلم من بعدها جزءًا من حياته الفنية والشخصية على حد سواء.
دعم مي عودة
مع جائحة كورونا، وجد المخرج الوقت الكافي للغوص في أكثر من 250 ساعة من اللقطات، لإعادة تشكيل الفيلم في المونتاج الذي وصفه بأنه «عمل انتحاري»، لأنه يتطلب القدرة على المقارنة والتمييز بعد شهور من العمل على مشاهد متعبة، مما استدعى مشاركته مع زملاء مثل السينمائي السوري زياد كلثوم لمساعدته في رؤية الشكل الكلي للفيلم.
دخلت المنتجة والمخرجة الفلسطينية مي عودة إلى المشروع بعد سنوات طويلة من تصوير بكري، واصفة اللحظة بأنها كانت اكتشافًا حقيقيًا، إذ تقول لموقع "القاهرة الإخبارية"، "في أواخر عام 2020 تلقيت اتصالًا من منتج صديق يخبرني بأن أليكس بكري لديه مواد مذهلة. حين شاهدت هذه اللقطات شعرت بصدمة حقيقية، كانت المواد تضع يدك على جرح عميق في داخلنا. كان ذلك خلال جائحة كورونا، حين كانت كل الأسئلة حول تدمير السينما، مستقبل السينما الفلسطينية، وكيف يمكن إعادتها".
وتضيف: "تعرفت على أليكس كمونتير بارع وسينمائي خالص، لديه تجارب تمثيلية، لكنه في المقام الأول صانع أفلام. استلمت المواد ووضعنا إستراتيجية واضحة، ثم بدأنا في تأمين التمويل. على مدى خمس سنوات، عملنا جلسات طويلة من العصف الذهني لنجيب على سؤال جوهري: كيف نحكي هذه القصة بالمواد التي صوّرها أليكس على كاميرا Mini DV بطريقة معاصرة، وتصبح تجربة سينمائية حية وطويلة الأمد؟".
وعن تجربة العمل مع أليكس، تقول: "سعدت جدًا بالتعاون معه، وأصبح جزءًا من العائلة. وبدأنا بالفعل العمل على أفلام من إخراجه، وهذا الفيلم كان البداية".
الفيلم لكل فلسطيني
تصف مي عودة الفيلم بأنه أكثر من مجرد قصة عن سينما جنين أو حسين درابي، بل يمثل كل الفلسطينيين الذين يكافحون للحفاظ على إرثهم الثقافي في ظل الاحتلال والمعيقات اليومية: قائلة: "هذا الفيلم لكل فلسطيني، حياتنا ليست سهلة، ومع ذلك نحفر بالصخر لنبني أملًا للغد، وكل فلسطيني يواجه صعوبات لكنه يظل صامدًا، مثابرًا، يسعى للحياة، لذا أهديت جائزة فوزنا بمهرجان القاهرة السينمائي هذا العام لكل فلسطيني يحيي الأمل والحياة، ولكل سينمائي يقاتل بكل قوته ليصنع السينما، ويثبت روايته، وينقل الرواية الفلسطينية.. وفيلم "حبيبي حسين" هو أفضل مثال على ذلك: مثال للسينما الفلسطينية، للفلسطيني المثابر، لمقاومة الاحتلال، ليس فقط بالأداء، بل بالثقافة والصمود، لمواصلة سرد قصتنا".
محاكمة المنظومة الأوروبية
وعن الخطوات المستقبلية للفيلم، تقول: "أتمنى أن يُعرض الفيلم في مهرجان أوروبي، لأنه يحاكم المنظومة الأوروبية الاستعمارية للثقافة. من الطبيعي أن يكون عرضه صعبًا هناك لأنه يكشف واقع التمويل الأوروبي، لكن لدينا أمل كبير في الوصول إلى جمهور أوسع. الخطوات القادمة ستكون إيجابية بإذن الله".
وتضيف: "الفيلم كان صعبًا جدًا، ونهايته كانت أصعب، لأنه يضع اليد على الجرح، وجرحنا كبير ولا يزال طريًا. الفيلم عن سينما جنين وعن حسين درابي، لكنه يمثل أيضًا ملايين القصص المشابهة لحسين، لكل من يكافح بصمت من أجل الحفاظ على إرثه الثقافي".
تختتم مي عودة حديثها بالتعبير عن فخرها بمهرجان القاهرة السينمائي: "مشاركتنا في مهرجان القاهرة السينمائي في نسخته الـ 46 كانت مصدر فخر كبير، وفوز الفيلم بجائزة في قلب القاهرة شرف عظيم لنا".