تأتي زيارة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى الهند، 24 يناير 2023، تلبيةً لدعوة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، للمشاركة في احتفالات الجمهورية كضيف شرف رئيسي، الذى يوافق اليوم الذي بدأ فيه العمل بدستور جمهورية الهند عام 1950، التي تواكب أيضًا الذكرى الـ75 لتأسيس العلاقات بين القاهرة ونيودلهي، التي تأسست على ركائز تاريخية راسخة عكست المصالح المتبادلة والرؤى المشتركة، وقامت على تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين في مجالات متعددة، كما تتزامن تلك الزيارة أيضًا مع دعوة نيودلهي، إلى مشاركة مصر في اجتماعات مجموعة العشرين، خلال الرئاسة الهندية للمجموعة، التي تسلمتها من إندونيسيا في ديسمبر 2022 وتستمر حتى نهاية نوفمبر 2023، لتتسلمها البرازيل بعد ذلك خلال عام 2024.
أهمية متزايدة
تكتسب الزيارة أهميتها من عدة أوجه أولها أنها تجسد الأهمية الاستراتيجية لمصر ولشخص الرئيس من خلال دعوة مصر ممثلةً في رئيسها لأول مرة للمشاركة كضيف شرف رئيسي في احتفالات الهند بعيد الجمهورية، في ظل توجيه الدعوة لمشاركة كل قادة وزعماء العالم، كما وجهت الحكومة الهندية الدعوة رسميًا إلى مصر للمشاركة كضيف للرئاسة الهندية في اجتماعات مجموعة العشرين، بما يعد تجسيدًا أيضًا لمكانة مصر الإقليمية والدولية، ولدورها المؤثر في مختلف القضايا والملفات الاقتصادية على المستوى الدولي، كما يعكس أيضًا التقدير الهندى للدور المصري. كان قد سبق توجيه الدعوة إلى مصر للمشاركة في اجتماعات مجموعة العشرين، لأول مرة في عام 2016 من الصين خلال رئاستها للمجموعة، وكذلك عام 2019 خلال رئاسة اليابان للمجموعة، إذ كانت تتولى مصر رئاسة الاتحاد الإفريقي آنذاك.
وثانيها، أنها تعد الزيارة الثالثة للرئيس السيسي إلى الهند، التي وصفها رئيس الوزراء الهندى ناريندرا مودي بالتاريخية، ومعلقًا عبر حسابه الرسمي على "تويتر": "الرئيس عبد الفتاح السيسي، إن زيارتك التاريخية إلى الهند كضيف شرف رئيسي في احتفالاتنا بيوم الجمهورية، هي مسألة سعادة عارمة لجميع الهنود". وسبق أن زار الرئيس السيسي الهند في أكتوبر 2015، للمشاركة في قمة منتدى الهند وإفريقيا، وفى سبتمبر 2016 كانت الزيارة الثانية للهند، التي عكست متانة العلاقات بين البلدين، إذ ثمن خلالها رئيس الوزراء الهندي الدور القيادي والمحوري لمصر في إفريقيا والعالم العربي، باعتبار أنها تمثل منارة للاعتدال، فضلًا عن تأكيد حرصه على البناء على الإرث التاريخي والحضاري الذي يربط بين الشعبين المصري والهندي، ومشيدًا بدورها التاريخي في الدفاع عن قضايا الدول النامية.
ثالثها، ثقل مجموعة العشرين بين التكتلات الاقتصادية الدولية، إذ تستحوذ دول المجموعة على 80% من الناتج الإجمالي العالمي، و75% من حجم التجارة الدولية، و60% من سكان العالم. وهو الأمر الذي يجعلها من أبرز أطر القرار الاقتصادي الدولي، لا سيما في ظل تنوع قادة العالم المشاركين في فعالياتها، ومحورية القضايا التي تطرح على أجندتها مثل التنمية المستدامة، التجارة والاستثمار، الزراعة والأمن الغذائي، الطاقة، التشغيل، البيئة وتغير المناخ، الصحة، السياحة، الاقتصاد الرقمي، البنية التحتية، وقضايا الصراع الدولي. لذلك يعكس شعار الرئاسة الهندية لمجموعة العشرين خلال عام 2023: أرض واحدة، عائلة واحدة، مستقبل واحد"، أهمية توحيد دول العالم، لمواجهة التحديات التي تهدد مستقبل البشرية.
دلالات متنوعة:
في ضوء تحولات النظام الدولي باتجاه إرساء نظام متعدد الأقطاب من الناحية الاقتصادية، وفي ظل التوقعات بأن القرن الواحد والعشرين سيكون قرنًا آسيويًا، وأن الهند تعد من الأقطاب المرشحة للصعود على مسرح السياسة الدولية، فإن الزيارة تعكس العديد من الدلالات للجانبين لعل أهم تلك الدلالات يتمثل في التالي:
(*) تنامي التعاون الاقتصادي والتجاري: تعد مصر من أهم الشركاء التجاريين للهند، إذ تحتل المرتبة السادسة كأكبر شريك تجاري لمصر عام 2021، كما تعد ثالث أكبر الأسواق التصديرية لمصر، وتنامت التجارة الثنائية بين البلدين خلال عام 2021/2022، وحققت رقمًا قياسيًا وصل 7.26 مليار دولار. وفي حين تمثل قيمة الصادرات الهندية إلى مصر نحو 3.74 مليار دولار، تبلغ واردات الهند من مصر 3.52 مليون دولار، كما تبلغ استثمارات الشركات الهندية ما يقرب من 3.15 مليار دولار في قطاعات متعددة منها الصناعات الكيميائية، الطاقة، المنسوجات والملابس والأعمال الزراعية وتجارة التجزئة. ووفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن حجم التبادل التجاري ارتفع بين مصر والهند بنسبة 20%، خلال العشرة أشهر الأولى من 2022، مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2021، كما بلغت قيمة تحويلات المصريين العاملين 5.82 مليون دولار خلال العام المالي 2020-2021.
(*) المساندة لمواجهة الأزمات: تعكس الأزمات الطارئة مدى قدرة الدول على التعاون البناء والمساندة للحد من تداعياتها، وفي ظل تفشي الموجة الثانية لجائحة كورونا قدمت مصر 30 طنًا من المساعدات الطبية للجانب الهندي، وما يقرب من 300 ألف جرعة من عقار ريميديسفير. ومع تفاقم تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية وتأثر صادرات الحبوب من البلدين، توجهت مصر لاستيراد القمح الهندي كبديل للقمح الروسي والأوكراني رغم حظر التصدير الذي فرضته نيودلهي، نتيجة موجة الحر الشديد التي أثرت على إنتاجيتها.
(*) التبادل الثقافي: يتنوع التبادل الثقافي ما بين الهند ومصر، لا سيما وأن الهند تسعى لتعزيز قوتها الناعمة في دول الإقليم، منها تعليم اللغة الهندية والأردية، والتعريف بالأدب الهندي والفنون الهندية، من خلال نشر إنتاجها الفني والسينمائي على وجه التحديد، والرياضة الهندية ومنها اليوجا. لذلك جاء تأسيس المركز الثقافي الهندي بالقاهرة عام 1992، الذي يعد حجر الزاوية لتنفيذ برنامج التبادل الثقافي بين البلدين، وينظم المركز دورات لتعليم اللغة الهندية والأردية، وتقديم عروض سينمائية للفن الهندي، وتعليم فنون المطبخ الهندي. وبالتالي فإن دور الهند الثقافي والمتنوع نجح في مد جسور التعاون والصداقة مع العديد من دول وشعوب العالم، من بينها الشعب المصري.
(*) الاسترشاد بالتجربة الهندية: تتوقع التقديرات الاقتصادية بأن الصين التي تمثل الآن ثاني أكبر اقتصاد في العالم مرشحة لأن تكون أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2035، أما الهند ثالث اقتصاد في آسيا، فيتوقع أن تتجاوز اليابان عام 2033، لتصبح ثاني أكبر اقتصاد آسيوي، والثالثة عالميًا بعد الولايات المتحدة والصين. ولا شك أن التعددية القطبية من الناحية الاقتصادية على المستوى الدولي تعزز من فرص التعاون للاقتصادات الناشئة مع تلك الأقطاب الاقتصادية، للاستفادة من تجاربها التنموية واتباع مسارها، منها مصر، لا سيما وأن التجربة الهندية التنموية تزامنت في الانطلاق مع تجربة مصر التنموية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، إلا أنها واجهت العديد من التحديات كان من بينها الحروب التي خاضتها مصر لسنوات ممتدة.
(*) تفعيل دور حركة عدم الانحياز: تجسد حركة عدم الانحياز نموذجًا للتعاون البناء بين مصر والهند، منذ تأسيس المجموعة عام 1955، ومشاركة قادتها الرئيس جمال عبد الناصر وجواهر لال نهرو كرواد مؤسسين للحركة. وإذا كانت التحديات الراهنة بعد تفجر الأزمة الروسية الأوكرانية وتداعياتها على الاستقرار والأمن الدوليين تشكل حاجة العالم لصوت من العقل والحكمة، من هنا يمكن أن تقوم حركة عدم الانحياز بدور فعال للوساطة بين الأطراف المتنازعة، لا سيما وأن عددًا من أعضاء تلك المجموعة لا ينخرط بشكل أو بآخر في الاصطفافات والتحالفات التي انتجتها الحرب فالهند تمتلك علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية وعلاقات تعاون اقتصادية مع روسيا، وكذلك تمتلك مصر علاقات متوازنة مع كافلة الدول المنخرطة في الصراع، وسبق أن وجه الرئيس السيسي نداءً باسم القادة المشاركين في فعاليات قمة شرم الشيخ الدولية للمناخ، نوفمبر 2022، لوقف تلك الحرب لتداعياته السلبية على كل الدول.
مجمل القول: إن زيارة الرئيس السيسي إلى الهند تعكس محورية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين، التي تعززها العلاقات التاريخية في إطار حركة عدم الانحياز، والتعاون الاقتصادي والثقافي المتنامي بما يتوقع معه أن تمثل تلك العلاقات وزخمها ركيزة رئيسية للحد من الصراعات الدولية والاستقطابات الناجمة عن الأزمة الروسية الأوكرانية، من خلال تعزيز دور حركة عدم الانحياز وإحياء دورها كتجمع دولي يمكن أن ينجح في تهدئة الصراعات الدولية والحد من تفاقمها، ووقف نزيف الاقتصاد العالمي الذي أصبح تداعياته شديدة الوطأة على جميع الاقتصادات بلا استثناء، لا سيما وأن الهدف من تأسيسها تجسد في جهود إعادة صياغة أسس النظام العالمي على نحو أكثر عدالة يحمي مصالح الدول النامية ويلبي تطلعات شعوبها نحو مستقبل أفضل.