على أطراف خريطة المأساة الفلسطينية، تتولد خطة جديدة لتوزيع الغذاء في قطاع غزة، تفتح ملفًا بالغ الحساسية، يكشف تفاصيل خطة مساعدات غذائية نشأت في إسرائيل، وتنفّذ عبر مقاولين أجانب بعيدة عن الأمم المتحدة، تحت شعار "الحياد"، لكن في واقعها تعكس استراتيجية عميقة لضرب القطاع وتطويق المدنيين الفلسطينيين.
خطة جذورها إسرائيلية
هذه المبادرة التي ستُنفَّذها إسرائيل قريبًا في غزة، تقف وراءها مجموعة من المتعاقدين الأجانب، مدعومة بهيكل أمني واقتصادي محكم، تهدف لتوزيع المساعدات الغذائية بعيدًا عن المنظومة التقليدية التي تمثّلها وكالات الأمم المتحدة، لكن صحيفة "نيويورك تايمز" كشفت أن جذور هذه الخطة ليست أمريكية خالصة، بل إن ولادتها تمت في اجتماعات إسرائيلية مغلقة منذ الأشهر الأولى للحرب.
فبينما أعلن السفير الأمريكي لدى إسرائيل، مايك هاكابي، أن الخطة "ليست إسرائيلية"، فإن تحقيق الصحيفة الأمريكية يستند إلى شهادات مسؤولين ومطلعين يؤكدون أن المشروع صُمّم أساسًا من قبل مسؤولين إسرائيليين سعوا إلى تجاوز الأمم المتحدة وتهميشها في إدارة ملف المساعدات.
"ميكفيه إسرائيل" البداية
تعود البدايات إلى أواخر عام 2023، حين اجتمع مسؤولون وضباط إسرائيليون ورجال أعمال في كلية قرب تل أبيب، فيما عُرف لاحقًا باسم "منتدى ميكفيه إسرائيل"، الهدف من هذه الاجتماعات كان واضحًا وهو رسم ملامح استراتيجية جديدة لما بعد الحرب، تهدف إلى تقويض نفوذ حماس في غزة وتجاوز الأمم المتحدة التي يتهمها الإسرائيليون بالتحيّز، حسب "نيويورك تايمز".
وخلال عام 2024، تطور هذا التصوّر، بدعم سياسي وعسكري من قادة إسرائيليين، ليصبح خطة فعلية، تُنفَّذ بالتعاون مع جهات أمنية واقتصادية خاصة، على رأسها مجموعة الأمن الخاصة التي يديرها الضابط السابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، "فيليب إف. رايلي".
بموجب الخطة الجديدة، ستتولى شركة "سيف ريتش سوليوشنز" الأمنية التي يرأسها رايلي، إلى جانب شركات أخرى، تأمين أربعة مواقع لتوزيع الغذاء في جنوب غزة، وهي مناطق تقع تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية، وستُموَّل هذه العملية من خلال مؤسسة "غزة الإنسانية"، التي يرأسها الجندي السابق في مشاة البحرية الأمريكية، جيك وود.
يصف "وود" النظام بأنه "غير مثالي"، لكنه يعتبره أفضل من غياب البدائل، مؤكدًا في مقابلة للصحيفة أن "أي طعام يصل إلى غزة اليوم هو أكثر من الطعام الذي دخلها بالأمس"، ورغم تأكيده على استقلالية مؤسسته عن الحكومة الإسرائيلية، إلا أن الشهادات والتسريبات توحي بعكس ذلك.
الأمم المتحدة تُحذّر
ردّت الأمم المتحدة بقلق بالغ على الخطة الجديدة، معتبرة أنها ستقيّد وصول الغذاء إلى السكان، وتحصره في مناطق محددة فقط، ما سيضطر المدنيين إلى عبور مناطق عسكرية خطرة للوصول إلى الغذاء، الأخطر من ذلك، حسب التحذيرات الأممية، أن هذه الخطة قد تُستغل كوسيلة لتهجير السكان من شمال غزة، حيث تُركّز مراكز التوزيع في الجنوب فقط.
وتؤكد المنظمة الأممية أن النظام الجديد يفتقر إلى الشفافية والتجربة، مقارنة بالهيئات الأممية ذات الخبرة الطويلة في إدارة الأزمات الإنسانية.
وتشكلت خلال الحرب الإسرائيلية على غزة شبكة غير رسمية من الجنود الاحتياطيين، والمستشارين المدنيين، والمستثمرين الإسرائيليين المقربين من الحكومة، بهدف ملء فراغ استراتيجي حول مستقبل غزة، ومن بين أبرز الأسماء التي شاركت في بلورة هذه الخطة هي يوتام هاكوهين، مستشار استراتيجي انضم لاحقًا إلى مكتب تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في المناطق، وليران تانكمان، مستثمر تكنولوجي ذو علاقات وثيقة بالحكومة الإسرائيلية، ومايكل آيزنبرج، المستثمر الإسرائيلي الأمريكي المعروف.
قاد هؤلاء سلسلة اجتماعات، بعضها في منازل خاصة، ومنها منزل آيزنبرج في القدس المحتلة، لتطوير النموذج الذي يستند إلى التعاقد مع شركات خاصة تتولى توزيع الغذاء، وتحجيم دور الأمم المتحدة، ونزع أي مسؤولية مباشرة عن إسرائيل تجاه سكان غزة.
"رايلي".. من نيكاراجوا إلى غزة
ويتمتع فيليب رايلي، العقل الأمني الأبرز في الخطة، بتاريخ طويل في العمل الاستخباراتي، ففي الثمانينيات، عمل ضمن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية لتدريب قوات الكونترا في نيكاراجوا، وفي العقد الأول من الألفية، كان من أوائل عملاء الوكالة الذين دخلوا أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر.
وبحسب مقابلات أجريت معه، بدأ رايلي الانخراط في الشأن الغزّي بداية عام 2024، حيث التقى شخصيات إسرائيلية مدنية وأمنية، ثم فُتحت له قنوات التواصل مع القيادات العسكرية والسياسية الإسرائيلية، وعلى الرغم من وجود متعاقدين آخرين عرضوا خدماتهم، إلا أن رايلي برز كشريك مفضل.
وفي مقال كتبه يوتام هاكوهين في مجلة عسكرية إسرائيلية في يوليو 2024، طرح علنًا الخطوط العريضة للخطة التي يجري الآن تنفيذها، دعا هاكوهين إلى ما أسماه "العمل المباشر مع السكان المدنيين في غزة"، وسحب البساط من تحت أقدام حماس عبر توزيع المساعدات من خلال شركات خاصة، وليس عبر الحكومة أو الجيش الإسرائيليين مباشرة.
وأشار إلى ضرورة إشراك مقاولين دوليين غير إسرائيليين لتأمين الغطاء الدولي، مضيفًا أن هذه الأفكار صقلها أثناء عمله مساعدًا للجنرال رومان جوفمان، المستشار العسكري الحالي لرئيس الوزراء الإسرائيلي.
وحسب "نيويورك تايمز"، فبينما تُعرض الخطة بوصفها نموذجًا مبتكرًا وحياديًا، فإن واقعها يُظهِر محاولات هيكلة النظام الغذائي في غزة بما يتلاءم مع السيطرة الإسرائيلية، بعيدًا عن أعين المجتمع الدولي.
فما يحدث في غزة اليوم لا يتعلق فقط بالجوع أو الإغاثة، بل بكيفية تحويل الخبز إلى سلاح، والمساعدات إلى ورقة ضغط، في صراع تتقاطع فيه الدماء بالقرارات، والسيادة بالمقاولات، والبندقية برغيف الخبز.